كيف نرى الواقع؟
ربما يكون السؤال الأهم ونحن نواجه - كمجتمع - مشكلات الحاضر المعقدة وتحديات المستقبل التي يكتنفها الغموض. ونجد أنفسنا في نقاش محتدم حول ما علينا فعله للحفاظ على لحمتنا الوطنية واستقرارنا في ظل التغيرات السريعة التي تشهدها الساحتان الداخلية والخارجية. إن التحدي الأكبر هو المشي على خط رفيع يتطلب الموازنة بين أمن المجتمع وحرية الأفراد، بين الحفاظ على الثوابت الوطنية والتطلع للتطور ومحاكاة العصر. لقد أخذتنا التغيرات السكانية والحضرية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتقنية على حين غرة، وأثرت في توازن المجتمع وهي آخذة في التوسع في تأثيراتها المتسارعة. لقد بات من الضروري الاعتراف بتلك التحولات التي يشهدها المجتمع حتى إن لم نرغب في أن نراها أو أن نتشاغل عنها ليتلبسنا شعور واهم بالاطمئنان، وبالتالي عدم أخذها على محمل الجد. قد تبدو المشكلات في المدى البعيد أصغر من حجمها الحقيقي تماما مثل الطائرة نراها من بعيد صغيرة، لكن ما إن تقترب من مدرج المطار إلا ونرى حجمها الحقيقي. ومن ينظر في الأفق البعيد يرى أن المستقبل محمل بكثير من التحديات والمفاجآت والصعوبات وهي تستلزم بالضرورة الإعداد لها واحتواءها والسيطرة عليها بحكمة ورشد، والأهم بمعادلة جديدة في إدارة المجتمع وتهيئته ليكون على قدر تلك التحديات التي يكتنفها الغموض ولا يمكن توقعها، وبالتالي تتطلب بناء قدراتنا السياسية والاقتصادية والثقافية لنكون على أهبة الاستعداد لأي طارئ ونستطيع التعامل مع المتغيرات بكفاءة.
الحقيقة الواضحة أن المجتمعات تنمو وتتطور بسرعة هائلة، لذا ما كان مقبولا من قبل لم يعد كذلك، وأصبح علينا التفكير بطريقة إبداعية ومرنة وليس بالأسلوب النمطي ذاته الذي لا يتفق مع المستجدات ولا يمكننا من مواجهة التحديات. إن الحديث عن التطوير الاقتصادي والتنمية السياسية والارتقاء بالمجتمع والتفكير خارج المعتاد لا يعني بأي حال من الأحوال المساس بالثوابت الوطنية؛ لأنها محور اجتماعنا ومرتكز هويتنا، وهي مصدر وحدتنا وقوتنا، لكن لا بد من تجديد لغة الخطاب وأسلوب ممارستها بما يتناسب مع روح العصر. إنه عصر التواصل الاجتماعي والرؤى المشتركة وتبادل المعلومات بحرية كاملة وإتاحة الفرصة لمن يريد خطاب شريحة كبيرة من الناس في كل مكان وزمان دون قيد أو شرط ودون تكلفة تذكر. إنه حقا أمر مخيف أن يجتمع الناس على صعيد واحد ليروا الأمور بنظرة جماعية ويتحدثون عنها وكأنهم في مجلس صغير. إن ما أحدثه الإعلام الجديد من طفرة في تشكيل الأفكار والرؤى (سواء كانت صحيحة أم وهمية) يمثل فرصة وفي الوقت ذاته تهديدا. ويأتي التهديد من أن الأفكار المشتركة التي تسيطر على عقول الناس وتصبح جزءا من رؤيتهم للواقع لتتحول إلى حراك اجتماعي، وإذا ما وجد بيئة مناسبة تعزز ما يدور في عقولهم فإنه يدفع باتجاه توازن جديد ومعادلة جديدة. لكن هذا التوازن الجديد مكلف للغاية؛ لأنه يخلق خللا كبيرا ويجعل المجتمع برمته يدخل تجربة خطرة يجهل نتائجها ولا يملك الخبرة الكافية للتعامل معها ويسيطر الحماس العاطفي والغوغائية ولغة الانتقام على حساب الإصلاح والنقد الهادف والرؤية المتزنة والطرح الهادئ الذي يجلب المنافع ويدرأ المفاسد. والنظام الاجتماعي أشبه ما يكون بالزجاج فما إن تعم فيه الفوضى وتتكسر عرى الاجتماع لا يمكن إعادته مرة أخرى كما كان. الحديث هنا ليس تنظيرا أو ترهيبا من التغيير الاجتماعي، لكنه واقع مشاهد، فما يحدث في دول الربيع العربي التي خاضت تجربة رهيبة يغني عن الكلام، فها هي تعيش حالة من الانفلات الأمني والصراعات والتناحر والانتهازية والضعف الاقتصادي والسياسي. ربما قال أحدهم إن هذا ثمن الحرية والقضاء على الفساد والظلم والقهر الذي يعيشونه. هذا صحيح، لكنه ثمن باهظ جلب مفسدة أكثر مما جلبه من منفعة، وربما كانت تلك الشعوب مغلوبة على أمرها ولم يكن لها خيار آخر، وهذه المصيبة بعينها والدرس الأهم من تجربة تلك الدول.
إن التجربة التي مرت بها دول الربيع العربي يجب ألا تختزل في دائرة رفض الشعوب للنظم الفاسدة، بل يلزم قراءتها بتأن والتركيز على أن قيادات تلك الدول لم تتنبه للمتغيرات واستمرت على ذات النهج القمعي وفرض سياسة الأمر الواقع بما يتنافى مع الواقع! تلك القيادات لم تحترم شعوبها وظلت تبحث عن المجد الشخصي فأعماها ذلك عن أن تدرك حقيقة مهمة مفادها أن الشعوب تكبر وتتعلم وتنضج وتطمح وتحتاج إلى التعامل معها بأسلوب جديد مبني على الندية وتطوير إدارتها والارتقاء بالعلاقة معها والسعي إلى تحقيق مطالبها. لقد كان بمقدور تلك القيادات وبوقت كاف إدراك تلك الحقيقة وتطوير العمل المؤسسي والإطار العام لصناعة القرار بطريقة تحقق زيادة النمو الاقتصادي وتحسين معيشة المواطن وتوزيع كفء للدخل وتطبيق القانون بالعدل والمساواة وضمان الحريات. هكذا فقط كان بمقدور تلك القيادات المتغطرسة تجنيب مجتمعاتها ويلات التشرذم والخلافات والصراعات التي لا يلوح في الأفق بادرة لتوقفها.
إن القيادات تتحمل مسؤولية إدارة المجتمعات وتطويرها وصيانتها، لكن الكيفية في ممارسة تلك المسؤولية تعتمد على رؤيتها للواقع والقناعة بما يجب فعله. فخيارات القيادات أقوى وأسرع من اختيارات الشعوب، فإما أن تختار أن تقود مجتمعاتها نحو الأفضل أو أن تأخذهم إلى أسفل سافلين، وفي الحالة الأخيرة ترفض المجتمعات بطريقة فطرية عفوية عاطفية يخالطها كثير من الغضب النزول للهاوية، لكنها في واقع الأمر تهرول إليها عندما ينفلت زمام الأمور، ويصبح هناك هرج ومرج واحتفالية جماعية غاضبة تفقدها رشدها ولا تفكر في العواقب. إن الخروج عن الضبط الاجتماعي يكون على حساب استقرار وتماسك المجتمع وأمنه وسلامه. لذا كانت أفضل طريقة لإدارة التغيير إحداثه ابتداء حتى يكون التغيير مخططا مقصودا يتم توجيهه والتنبؤ بنتائجه ويقود نحو تطوير المجتمع تدريجيا. إن كثيرا من الصراعات تنشأ بسبب الاختلاف في التوقعات بين فئات المجتمع، وبالتالي هناك ضرورة لتطوير العمل المؤسسي الحكومي ليكون أكثر حساسية لمتطلبات المجتمع ويساعد على تكوين نظرة مجتمعية مشتركة تجعلنا نرى الواقع بوضوح ونصنع القرارات الصحيحة.