هلا أعطيت أمك شيئا
حين اتصلت بي شعرت بتهدج صوتها عبر الهاتف، لكأنما هي تحاول صد أمواج عبرات تتحشرج بصدرها، لم تكن تحتاج مني استشارة أو نصحا بقدر ما كانت في حاجة لمن ينصت إليها ويستمع لأنين معاناتها، قالت: أنا يا ابنتي قمت بتربية ثمانية من الأبناء، ستة منهم تخرجوا من الجامعة وتوظفوا وتزوجوا وبقي اثنان، أحدهما بنت ما زالت تدرس في الجامعة، والآخر شاب ما زال يدرس في المرحلة الثانوية، زوجي انتقل لجوار ربه قبل خمس سنوات، ومن يومها عرفت ما معنى أن تحتاج الأم وتخفي احتياجها حتى عن أقرب الناس إليها وهم أبناؤها حتى لا تشعر بأنها تثقل عليهم!
لقد أصبح راتب زوجي التقاعدي في ظل الغلاء المعيشي الذي نواجهه لا يكاد يفي بمتطلبات ابنتي الشابة الجامعية التي ما زالت تدرس في كلية الطب وتحتاج لمراجع مكلفة جدا ومصاريف نقل وغيرها، وكذلك متطلبات ابني الشاب المراهق الذي ينكسر خاطره 100 مرة حين يرى نفسه أقل من أقرانه وأبناء أشقائه وشقيقاته وغيرهم من أبناء العائلة، ولا بمتطلبات منزلي من مؤونة وفواتير كهرباء وهاتف وراتب خادمة، وكذلك متطلباتي الشخصية، يا ابنتي أنا في الـ 65 من عمري، وأفنيت حياتي كلها في خدمة أبنائي، كنت أحرم نفسي من العلاقات الاجتماعية والزيارات النسائية المعتادة بين نساء الحي والعائلة حتى لا أنشغل عن متابعة أبنائي وأبتعد عنهم، وكان والدهم يحرم نفسه من أشياء كثيرة حتى يوفر لهم ما يجعلهم لا يشعرون بالنقص حين يقارنون أنفسهم بغيرهم.. باختصار لقد كنا ننصهر من أجل أن تتشكل حياة أبنائنا كما كانوا يحلمون ويتمنون، واليوم حين نضجت الثمار وأينعت أصبحت فقط أكتفي ''بالتفرج'' عليها من بعيد، لأن يديّ لم تعتَدْ أن تتسول من الآخرين حتى ولو كانوا أبنائي فلذات كبدي، جميع أبنائي الستة موظفون في مراكز مرموقة، فمنهم الطبيب والمهندس والمدرس والمدير وأستاذة الجامعة والمديرة، هم يا ابنتي ثمار بعيدة جدا أكتفي ''بالتفرج'' عليها من بعيد رغم أعاصير الحاجة التي تجتاح حياتي من حين إلى آخر!
سألتها وأنا أعلم الجواب مسبقا لمن كانت تملك مثل رهافة إحساس هذه الأم الحنون: هل هم بنظرِك عاقون يا خالة؟!
أجابتني بسرعة: حاشا لله يا ابنتي، ما هم بعاقين، لكنهم لا يشعرون بمدى احتياجي إلا حين تصرح لهم شقيقتهم أو شقيقهم بذلك، هم يدخلون ويخرجون كل نهاية أسبوع ويرون رداءة أثاث منزلي وتهلهله ''ورصة'' فواتيري فوق مكتبة التلفزيون، وخلو ثلاجتي ومخزني من المؤونة، وغيرها وغيرها.. ورغم ذلك لا يقدمون أي مساعدة إلا إن طلبت شقيقتهم منهم ذلك، كم أتمنى أن يدس أحدهم يده بجيبه ويقول هذه مساعدة مني لك يا أمي لأني أشعر بك ولا أريدك أن تحتاجي وأنا موجود، أريد مثل هذه المشاعر منهم، لا يهمني المال بقدر أن يهمني إحساسي بأبناء يشعرون بي!
الابن الحقيقي هو الذي يقرأ قسمات وجه والدته فيدرك مشاعرها الحقيقية قبل أن تبوح له بها، وإلا ما فائدة أن تعصف بالأم أعاصير الاحتياج وأبناؤها يكتفون ''بالتفرج''، بحجة أنها لم تطلب منهم ذلك. اشعروا بأمهاتكم، تفقدوا احتياجاتهن، دسوا بأيديهن ما يجلب الفرح لقلوبهن، أشعروهن بمدى قربكم منهن، ولا تجعلوهن يتسولن إحساسكم بهن!