إنها «التربية الوطنية»
الحكومات العربية التي جاءت إلى السلطة بعد الثورات.. هل تلام على تردي الأوضاع التي تواجهها الآن؟
هل أداؤها السياسي في تصريف شؤون الحكم، إذا أخذناه بنظرة موضوعية لأجل الفهم فحسب، يمكن أن يوصف بالسيئ أو الضعيف، أو أي شيء آخر؟
هل حالة الانفلات الأمني وبروز المشاحنات السياسية ذات الطابع الشخصي بين السياسيين، واستعجال النتائج من الشعوب، والمطالبة بالمكاسب الاقتصادية والاجتماعية الخاصة، هل كل ذلك مؤشر على غياب "التربية الوطنية" التي تصوغ المواطن وتربيه ليكون منتجا أولا، ويقدر التقلبات في بلده بصورة موضوعية، حيث يبادر لأن يكون جزءا من الحل للمشاكل والتحديات، ويتفحص واجباته الأساسية ومسؤولياته الوطنية، ثم بعد ذلك يسأل عن حقوقه؟
في أدبيات الحكومات السابقة.. هل كان هناك من يفكر في التربية الوطنية الإيجابية للشعوب، ومن كانوا في سدة الحكم هل تبادرت إلى أذهانهم مثل هذه الأمور أو حتى عرفوا عنها؟ الحكومات الحالية بالتأكيد ورثت وضعا صعبا، مثلا في مصر لا يمكن أن تلام الحكومة الحالية وحدها على تردي الأوضاع وانزلاق البلاد نحو الفوضى، بل يلام حكم مبارك الذي ترك البلد في وضع سياسي متهالك أدى إلى خروج الناس للشوارع، بعد 30 عاما من تراكم المشاكل التي لا يمكن حلها في بضعة أشهر، وكذلك الحال في ليبيا وفي تونس واليمن.. والآن الطامة الكبرى في سورية، فـ "نيرون" يحرق الأرض والناس!
كما هي الحال في الشركات أو المؤسسات، كيف يستطيع مدير مؤسسة أو رئيس شركة أن يصلح في بضعة أشهر ما تراكم من مشاكل في سنين عديدة.. وكيف يستطيع مقاول ترميم بيت تراكمت مشاكله في السباكة، والكهرباء ويعاني التصدع في أساساته، ونوافذه يتخللها الغبار وأبوابه مخلعة والمطلوب إصلاحه وترميمه بعد أن أهمله أهله لسنوات، ثم يراد ترميمه وإصلاحه وأهله فيه وهؤلاء لا يريدون أن يصبروا على تبعات الترميم، فإن فتحت الشبابيك لإصلاحها ضج الساكنون، وإن قطعت الكهرباء لضرورات الإصلاح احتجوا، في ظل هذه الظروف.. كيف يمكن إصلاح ما أفسد السكان.. والدهر؟!
في مصر الأوضاع الآن حلها مكلف ومضن، لأن تراكم المشاكل عبر السنين يُصعّب الحل ويعظّم تكلفته، فالرئيس السابق كان هو الخصم وهو الحكم، وكان صاحب الإرادة المطلقة وكان يتربع على المشهد الوطني وحده! ولم يكن في برنامجه السياسي والاجتماعي ما يربي الناس على النزاهة والإخلاص والإنتاج، كان هو وعائلته وحكومته يقدمون النموذج السيئ للإدارة والحكم، والناس تبني تصوراتها وتربي سلوكها على الممارسات التي تراها من النخبة، وإذا كانت هذه الممارسات سيئة ويراها الناس واقعا معاشا.. عندئذ تؤخذ على أنها معيار المواطنة الصحيحة الصالحة!
لم تنجح الثورات في العالم العربي لأن بنية الدولة ومؤسساتها لم تكن قائمة على أسس صحيحة في التخطيط والتنفيذ والمتابعة، كانت الواجهات توحي بهوية الدولة، والناس كانت معزولة عما يجري في الدولة، وكانت الناس تتعامل مع الهامش، أي أطراف مؤسسات الدولة، لذا تفاقمت المشاكل وتراكمت و(قلب الحكم) عرف أو فهم بعد أن وقعت الواقعة.
الحكومات السابقة تتحمل الوزر مرتين، المرة الأولى حينما وضعت بذور الخراب، وأيضا تتحمل تبعات الفوضى التي تمر بها البلاد الآن، فهم من بدَّد الموارد وراكم الديون وتركوا بلادهم دون رصيد تجربة ودون تنمية سياسية تساعدها على النهوض بأعباء التحول.
لقد مرت دول الربيع العربي في العقود الماضية بتحولات اقتصادية وسياسية مهمة، ولكن الشعوب كانت معزولة عن هذه التحولات، لذا بقيت بعيدة عن صياغتها والمشاركة فيها بالصورة التي تضمن الاستقرار وازدهار التجربة، وحتى الإنجازات التي كانت تتحقق تحسب النتائج للحكومات والشعوب ليس لها نصيب، كأنها غريب الدار! إنها حالة خصام، لم يكن للناس نصيب في المشاركة في الحياة العامة إلا في حدودها الدنيا، وربما هذا الذي يفسر حالة العنف والفوضى والتدمير التي تطول الممتلكات العامة التي هي ملك للناس وليست للحكومات التي راحت.
"التربية الوطنية" عندما تمارس ضمن مشروع كبير تصبح "مشروع النجاة" لأية دولة تتبناها وترعاها، وفي التجربة الدولية المعاصرة نجد أن الدول الاسكندنافية تقدم النموذج الكبير الحي لما ينتج عن التجربة الوطنية التي تستهدف إنتاج المواطن الصالح. هذه الدول تدفع الآن ثمن النجاح. فكما أن الفشل له ثمن.. النجاح له ثمن أو يقود إلى أزمة، وأطرف ما في هذا المجال هو في تحول الناس هناك إلى استخدام الدراجات، فالكل يتجه إلى هذه الوسائل للتنقل في المدن مما أوجد أزمة "مرور"، فلم تعد المسارات المحددة للدراجات في الطرقات كافية فزحف أصحاب الدراجات إلى مسار المركبات، وهذه بالنسبة لهم أزمة!!
هذا التحول الإيجابي الكبير هو ثمرة لتربية وطنية بدأت في السبعينيات بعد صدمة ارتفاع أسعار النفط، فمنذ تلك الحقبة وضعت البرامج الوطنية التي استهدفت تربية الأجيال القادمة على البدائل للنقل العام، ونجحت في هذا المسار عبر برامج التربية التي غيرت الاتجاهات ثم السلوك والآن أصبح التعامل مع النقل العام وبدائله عادة مستقرة لدى كبار المسؤولين في الدولة وليس عامة الناس.
دول الربيع العربي كان لديها المستبد الظالم، وجبروت السلطة المطلقة لو توافرت له الاستنارة لأحدث في الشعوب ما جنبها ويلات الخراب والدمار والتشرد، فالحكومات البائدة كانت لديها القوة والإرادة لتأخذ الناس إلى السلوك الإيجابي المطلوب للبناء والتعمير، ولكن كما نعرف وجهت هيمنة الدولة وسطوتها لبناء مقومات الخراب الذي ورثته هذه الدول وشعوبها.
أخيرا.. كل الذي نرجوه من ظلام التجربة لهذه الدول أن تجد القوى الاجتماعية التي قادت التغيير النظام السياسي الذي يقوم بدور "المستبد القوي الأمين المستنير" الذي يضع الناس على الصراط المستقيم، ويأخذهم إلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم، والاستبداد المستنير يأتي عبر التشريعات والأنظمة التي تطبقها وتنفذها المؤسسات، ويأتي عبر النموذج الحسن، وعبر جهاد النفس، وعبر الخوف الدائم من الله ــــ سبحانه وتعالى ــــ هذا هو خليط النجاح، ومن يرحم قد يقسو، وهذه من ضرورات التربية المستنيرة.