رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


حين لا تُبنى التنمية على أنقاض الثقافة.. قطر مثالا

تطرقت في مقال الأسبوع الماضي إلى نية قطر استقطاب مواطني دول مجلس التعاون للعمل لديها برواتب تعادل إلى حد كبير رواتب القطريين. فقد أشار مدير إدارة البحوث واللجان في غرفة تجارة قطر إلى أن الموظف الخليجي سيحصل في قطر على 90 في المائة من المميزات التي يحصل عليها القطري، وأن فرص العمل في قطر كبيرة وتتمتع بمميزات عديدة، إضافة إلى سهولة الحصول عليها.
وتفاوتت وجهات النظر حول هذا، فالبعض يرى أن هذا تدخل في أنظمة وخطط دول الجوار - دول مجلس التعاون - التي تعاني أزمة في البطالة وقد تواجه هذه الأخيرة إحراجا مع مواطنيها لعدم مقدرتها على توفير وظائف لائقة لمواطنيها. آخرون يرون أن محاولة قطر تقديم فرص عمل للكوادر الخليجية أحد الحلول المساعدة على امتصاص أزمة البطالة التي تعانيها الدول الأعضاء. رأي آخر يري أن عملا كهذا سينعكس سلبيا على تسرب الكفاءات الوطنية من دول الخليج إلى قطر لتغطية احتياجها من العمالة الخليجية على اعتبارها الأوفر نصيبا في طرح فرص العمل في القطاعين الأهلي والحكومي.
وبينت وجهة نظري حيال هذا الموضوع فذكرت أن هذه محاولة طبيعية وتصرف عقلاني بسبب أن قطر إحدى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وبين هذه الدولة ودول الخليج اتحاد منذ عقود ومن الطبيعي أن يتقدم هذا الاتحاد وألا يبقى رهين الاجتماعات والمجاملات، وبينت أن الاتحادات والتكتلات الدولية تمر بمراحل عدة تبدأ بتحرير التجارة وتنتهي بالاتحاد الفيدرالي، وتصرف قطر سينقل الاتحاد إلى المرحلة الثالثة - مرحلة السوق المشتركة.
هذا جانب، أما الجانب الآخر فأظن أن قطر تريد بفعلتها هذه أن تتجنب الخطأ الذي وقعت فيه بعض الدول التي سعت إلى بناء نهضتها وأهملت المحافظة على ثقافتها وقيمها الجوهرية كما فعلت بعض دول الخليج. حتى أقرّب وجهة نظري أكثر يتعيّن عليّ أن أعرض فلسفة الدول والاقتصاديات ونظرتها في تحقيق التنمية في ضوء نظرتها إلى التنمية والمحافظة على الثقافة التي يمكن أن تصنف إلى ثلاثة أصناف.
صنف يحافظ على القيم الجوهرية ولا يقبل البتة أن تمس لدرجة أنه يخشى خوض التنمية خشية المساس بالقيم الجوهرية وعناصر الثقافة المجتمعية من عادات، وقيم، ولغة، ودين. وهذا الخوف المبالغ فيه جعلها دولا ساكنة قابعة في مكانها تكره التغيير وتمقت التطور وتنظر إلى العالم وهو يُبنى من حولها بينما هي تعيش في ظلمة أبدية فقد سبقها الزمن وتعدتها الأمم ونرى مثل هذه النماذج عن أيماننا وعن شمائلنا، وقد يعيش بعضنا في بؤرتها.
صنف على النقيض تماما يعشق التغيير ويبجل التطور ويسعى إلى أحدث ما توصل إليه العصر من تقنيات وتغيير آليات التشغيل دون مراعاة للقيم الجوهرية والأصول التاريخية والمرجعية الثقافية. وتأثير هذا في الحضارة الإنسانية لا يختلف كثيرا عن تأثير الصنف الأول، بل قد يتجاوزه في التدمير، لأن الدول إذا بنت حضارتها وتنميتها على حساب ثقافتها فستفقد هويتها وستصبح مع مر السنين دولة من لا دولة له. نعم التغيير مطلب أساس وشرط ضروري لدفع عجلة التنمية قدما إلا أن هناك ثوابت للدولة كجزء من أمة ولديها ثقافة تميزها عن غيرها، فإذا حققت الدول أهداف التنمية دون أن تراعي قيمها بنت حاضرها، لكنها فقدت وجودها، لأنها مسخت ثقافتها وأضاعت جوهرها مصدر بقائها وشعاع مستقبلها.
وهناك نماذج واضحة نراها بيننا ومن بينها دول خليجية وأخرى عربية وصلت إلى نهضة وتنمية عملاقة في وقت قياسي وبخطط محسوبة وأهداف واضحة إلا أنها ضحت من حيث تدري ولا تدري بأهم ما يربطها بوجودها، وهي الثقافة. ففي بعض الدول نرى النظام الدقيق، والأبراج العالية، والإجراءات الإدارية السلسة، إلا أنه يحزننا ذلك التشوه الذي أصاب الثقافة، فلا ندري هل نحن في بلد عربي أم أعجمي؟ شرقي أم غربي؟ أين عادات البلد؟ أين قيمه؟ ما اللغة الرسمية التي يتحدث بها الناس؟ ما الدين الرسمي للدولة؟ كل هذه الملامح اختفت والناس تبهرهم التنمية فينسون في خضم ذلك الثمن الباهظ الذي دفعته هذه الدولة أو تلك من التضحية بقيمها الجوهرية، ولا أظن أن مواطنا عربيا كان أم غير عربي يرغب في تنمية عملاقة يدفع ثمنا لها ثقافته، فمن أسّس تنميته على أنقاض ثقافته فقد أصبح بلا هوية وبلا انتماء ولا يمكن أن يطلق على ذلك تنمية، بل دمار وتدمير ومسخ وتشويه.
أما الصنف الثالث فهو تأسيس التنمية على أسس ثقافية في مزيج يستحيل الفصل بينهما، فهناك عوامل قابلة للتغيير والتبديل والتعديل، وهناك عوامل تعد أصولا وقيما راسخة لا يمكن أن تمس وإن تأخرت التنمية سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل. فهذه الدول تؤسس تنميتها وتنطلق في هذا بلا حدود، لكن في الوقت نفسه تحافظ على ثقافتها وقيمها الجوهرية، تعرف وجهتها وترى أهدافها وتعرف متى تنطلق، ومتى تتوقف، وما هو جوهري، وما هو غير جوهري (قابل للتغيير)! وهنا يجب التنويه بأنه لا يمكن الفصل بين هذين المزيجين أو الاختيار بين البديلين أو أن نجعل بينهما مفاضلة، فكلاهما يحملان الأهمية نفسها ولهما الترتيب نفسه، قيم نحافظ عليها ونعض عليها بالنواجذ وآليات تشغيلية يمكن أن تتغير وتتبدل، وهذه هي العجلة التي تقوم عليها الحضارات على مر التاريخ وبقيت بعد ذلك قرونا. وفي عالمنا المعاصر نرى بأم أعيننا إنجازات اليابان التي أبهرت العالم بهذا التطور العلمي والإسهامات المعرفية وفي الوقت نفسه تمسكها بثقافتها وأصولها.
وهنا علينا أن نعود إلى موضوعنا حتى نختم فنقول إن استقطاب قطر مواطني دول مجلس التعاون الخليجي يجعلنا نضع قطر ضمن الصنف الثالث، ذلك النوع الذي يريد أن يبني تنمية وفي الوقت نفسه يحافظ على جوهره وقيمه وثقافته كما فعلت اليابان، التي انطلقت في برامج التنمية وفي الوقت نفسه تمسكت بقيمها الجوهرية، وهذه هي المنهجية التي ينبغي لنا دولا ومنظمات وأفرادا أن نتعلمها ونعيها ونطبقها حتى لا نبني تنميتنا على أنقاض ثقافتنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي