الأمم ومفهوم الثورات - 1
من الغريب جدا أن نسمع الحديث عن الثورة وكأنها قدر محتوم يجب علينا أن نمر به حتما عن أنوفنا، وأنه بمجرد أن يتحدث الناس عن الثورة فستشتعل. ومن المحزن، إلى حد بعيد، أن يعتقد أحدهم أنه إذا ألقى بنفسه من فوق جسر أو تعلق بمبنى أو أحرق نفسه فستقوم من أجله ثورة، وأنه إذا خطب أحدهم فأزبد وأرعد وهدد وتوعد فستقوم معه الثورة. كأنهم لم يقرؤوا التاريخ ولم يعلموا أسراره، كأنهم ما فقهوا كيف تنشأ الثورات ولماذا تنشأ في المبدأ. يعتقد الجميع ـــ وهذا خطأ فادح ـــ أن الثورة تصدّر نفسها، فبمجرد أن تحدث في شبر من الأرض حتى تحرق الشبر الذي يليه معها وكأنها جراد الأرض ينتشر ليأكل الأخضر واليابس. والحقيقة خلاف ذلك تماما، فكيف تنشأ الثورات وما أسبابها، وهل نحن فعلا معرضون لها اليوم كما يتوعدنا البعض من فينة إلى أخرى؟ وللإجابة العامة عن هذا السؤال وقبل الخوض في تفاصيله نقول ـــ بحمد الله وبإذنه ـــ إننا في أمان منها، ويحكمنا من بايعناهم على الحق وهم به يعدلون.
للفصل في هذه القضية وللتفصيل في الإجابة، يجب أن نفرق ابتداء بين الثورات والانقلابات العسكرية، الانقلابات العسكرية ليست ثورات، حتى إن لبُست بلباسها، حتما وإن طال الزمان ستقوم ضد اغتصاب الحكم ثورة، ولنا في التاريخ دروس. لكن ما الثورة إذاً، ما أركانها؟ كيف ومتى تحدث؟ لا تقوم الثورات لمجرد ظلم حدث ولو عمّ، أو لمجرد ظهور الدكتاتور، فلقد مرّ على البشر مئات، بل آلاف الدكتاتوريات ولم تقم ضدهم ثورات، بل نشأت وانتشرت الفوضى من بعدهم. بلا شك نحن لا نحب ولا نريد الطغاة، لكن ليس بالضرورة أن يقودنا بغضهم وكرههم إلى الثورة ضدهم، ذلك أن هناك قاعدة عامة تقول إن المساواة في الظلم عدل، ففي زمن الطغاة قد لا يشعر المرء بالظلم طالما هو متساو في معيشته مع غيره من أفراد شعبه. قد يشعر البعض بشيء ما إذا قارن حياته بالجار، لكن ليس بالضرورة أن تتفق المبادئ مع الجار؛ لذا يظل ظلم الحاكم أفضل من أتباع مبادئ الجار والانسياق وراءه في طريق مظلم.
كقاعدة عامة، الثورات لا تنشأ إلا إذا عم الفساد، والفساد هنا ليس سوء الخلق، بل إن سوء الخلق والأخلاق نتيجة للفساد وليس منتجا له، يحدث الفساد إذا انحاز الحاكم أو السلطة الحاكمة أو الحكومة إلى فئة دون أخرى، انحياز يتسبب في تقسيم الشعب إلى طبقات. المجتمعات لا تعارض المستبد العادل، وهو ذلك الحاكم الذي لديه كل الصلاحيات وقراراته تشريعات لا يمكن نقضها أو التقاضي ضدها، فهو مستبد بقراراته، لكنه رغم ذلك عادل، فهو لا يستخدم تلك السلطة إلا في تحقيق العدل والرخاء للبلاد وللشعب، كما إنه لا يفضل فئة على فئة ولا يقسم الشعب إلى طبقات ولا تستأثر عنده فئة بالخير دون الأخرى. لذلك لا تقوم ضده ثورات أبدا، ولو كان دكتاتورا، بل إن دكتاتورا كهذا ذرفت من أجله العيون حين موته، وانفرط العقد بعده. قد تحدث ضده انقلابات عسكرية؛ وذلك لتحقيق رغبة فئة مهينة جديدة في الاستئثار بالحكم ثم تسمي انقلابها زورا بالثورة، لكن ما تلبث هذه الانقلابات أن تتسبب في الثورة الحقيقية ضدها، وقد قيل إن الثورة التي لا تحقق أهداف الشعوب تنبئ بثورة أخرى ضدها.
إذاً، الثورات لا تنشأ بمجرد خطأ وقع هنا أو هناك، ولا ظلم ولو عمّ، ولا بسبب انفلات أمني، ولا حتى بسبب مشاكل اقتصادية وفقر البلاد، بل فقط بسبب نشأة الطبقات داخل البلاد، وتنشأ الطبقات داخل البلاد إذا انحازت الحكومة لفئة من الشعب فظهرت طبقة منه تهيمن عليه وعلى مصالحه، تشرع لنفسها ما تطحن به الآخرين، وتميز نفسها بغير حق. ومع ذلك لا تنشأ الثورة بمجرد نشأة هذه الطبقة، بل لا بد أن تنشأ الطبقة المطحونة، ولا بد أن تشعر الطبقة المطحونة بذاتها ويصبح لها كيان ورموز ورأي. من المدهش أن الطبقة المهيمنة التي تستأثر بالخير وهي جزء من الشعب تبذل جهدها لتمييز ذاتها عن باقي الشعب، وهنا لا بد لها من مذهب تنشره وتتبناه حتى تستطيع أن تميز بين من معها ومن ضدها، ثم تميز نفسها بمتحدثين لهذا المذهب يروجون له ويدعون من أجله، ثم تميز الآخرين الذين لم ينضموا إلى هذا المذهب بأسماء ومصطلحات مختلفة، عادة ما يكون للطبقة المهيمنة فن خاص بها، وخطاب خاص، وثقافة خاصة بها، وبرتوكولات صعبة، فهي تسعى دون أن تشعر إلى تعزيز كل ذلك لأنه يشعرها بوجودها وتميزها وهمينتها.
في المقابل لا تشعر الفئات المطحونة بنفسها كطبقات حتى تكمل الطبقة المهينة نموذجها وتميزها، عندها تبدأ الطبقة المقهورة بالظهور لكن الناس المنضمين إليها لا يشعرون بها ولا يصنفون أنفسهم بعد كطبقة حتى يصبح لهم مذهب يضمهم ويحرك فكرهم ومشاعرهم، ثم يصبح لهم فن وفنانون وخطاب خاص ومتحدثون، عندها فقط يشعرون بتميزهم عن الطبقة المهيمنة، وذلك بإطلاق مصطلحات وأسماء على أفراد الطبقة المهيمنة، ويبدأ من بعد ذلك تبادل التهم بين الطبقتين ومن جر الأمة إلى الانحطاط، وهنا فقط يبدأ صراع الطبقات، فيختفي العدل ويعم الفساد وينزوي الحاكم خلف الطبقة المهيمنة التي أصبحت باسمه تدير شؤون البلاد.
ما حدث فيما سمي دول الربيع العربي كان متوقعا إلى حد بعيد، ومن تابع أحوال هذه البلاد قبل اندلاع الثورات يعرف حق المعرفة التمايز الذي وصلت إليه وتمزق البلاد وظهور الطبقة المهيمنة من أصحاب المصالح الذين لم يميزهم شيء عن باقي الشعب سوى أنهم آمنوا بمذهب الطبقة وتبنوا مفاهيمها وانضموا إليها، طبقة استأثرت بكل شيء وسارت بمجتمعها نحو الفقر والفساد والجريمة، طبقة من الفاسدين سموا أنفسهم رجال أعمال زورا وبهتانا وصنعوا ثرواتهم وإمبراطورياتهم من احتكارات صنعتها لهم الهيمنة الطبقية، بينما بقيت عامة الشعب في طبقة مطحونة. لذلك عندما لاحت الفرصة انقضت الطبقة المطحونة كمجموع ولم تكن في حاجة إلى قائد، فهي تشعر بنفسها كوحدة وتشعر بذاتها التي قادتها إلى التحرك المنظم بعد شعورها العام بالظلم والرغبة في قلب موازين الحكم وإخضاع الطبقة المهيمنة لرغبة الطبقة المطحونة وإعادتهم إلى مستوى الشعب أو حتى أقل.
عندما تحقق الثورة هدفها، وهو إخضاع الطبقة المهيمنة لقوتها، ينهار نظام الطبقات الذي عاشت الشعوب في ظله زمنا، وفجأة لم تعد تشعر الطبقة المطحونة بوحدتها السابقة، وهنا تمر الشعوب بأخطر مراحلها على الإطلاق ويبدأ التسابق المحموم نحو السلطة، بل الاقتتال عليها. إن الانهيار والتفكك الحتمي للطبقات بعد الثورة يكونان شديدي الخطورة على الشعوب والأمم إذا لم يكونا منظمَين بل جاءا عشوائيين، وقد (وهنا تضعيف) تحتاج الأمم بعد الثورات إلى مرحلة دكتاتورية تقودها مرة أخرى إلى المساواة وتشعر الشعب ككل بأنه وحدة واحدة.