رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


التعليم العالي ليس مسؤولا عن البطالة

في ظل النقاشات الوطنية للقضايا والتحديات التي تواجه المجتمع هناك خلط بين أدوار الأجهزة الحكومية ومدى ارتباطها وتداخلها في معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. ويقع في رأس قائمة المشكلات المجتمعية ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب والشابات. وعلى الرغم من تعدد أسباب البطالة إلا أن هناك من يصر على ربطها بتزايد أعداد الخريجين وربما بتدني مستواهم، وهو اتهام لا يستند إلى حقائق على أرض الواقع. لذا هناك من يطرح تساؤلا حول جدوى التوسع في ابتعاث الطلاب للخارج وزيادة عدد الجامعات في الداخل؛ ظنا أن هذا سيؤدي إلى تفاقم مشكلة البطالة. وهذا بكل تأكيد ينم عن فهم قاصر لطبيعة مشكلة البطالة وتناولها من جانب العرض في سوق العمل بطريقة مجتزئة. وهو نتيجة حتمية لواقع إداري حكومي يتصف بالتشرذم وغياب استراتيجية وطنية تعمل من خلالها جميع الأجهزة الحكومية وتنسق جهودهم وتوجه الموارد نحو أهدافها. البطالة مشكلة معقدة تتطلب أن تتداخل في معالجتها جميع الإدارات الحكومية ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة، كما أنها تستلزم حلولا شمولية وجذرية تتناسب مع طبيعتها المعقدة. والحقيقة أنه ما زال هناك عيب إداري يتمثل في أن الأجهزة الحكومية يسيطر عليها الانتماء البيروقراطي وتقديم أهداف الجهاز على مصالح من يفترض أن يقوموا بخدمتهم! وهكذا تكون الاجتماعات الرسمية لمناقشة المشكلات مجرد تنافس بين ممثلي كل جهاز حكومي في الاستحواذ على أكبر حصة من المصالح البيروقراطية لإدارته. وبهذا الأسلوب الإداري العقيم تعجز الأجهزة الإدارية عن القيام بأدوارها وتنكفئ على نفسها وتغفل عن المتغيرات في بيئتها، وبالتالي تقل استجابتها وقدرتها على احتواء تلك المتغيرات ومعالجة المشكلات الاجتماعية. الثقافة الإدارية السائدة هي أخذ الكثير بأقل القليل والحصول على المخصصات الكبيرة وتحمل مسؤوليات أقل. بهذا الأسلوب السلبي تتحول المشكلات الاجتماعية والاقتصادية إلى طود كبير وتتعقد الأمور ويدخل المجتمع في دوامة من الأزمات وتستمر الحال على المنوال ذاته دون أن يلوح في الأفق بادرة أمل للانعتاق من تلك المشكلات. فعلى الرغم من النوايا الصادقة والجهود الكبيرة والموارد السخية التي تنفقها الدولة ما زالت البطالة تراوح مكانها، والأدهى والأمر ما زلنا نصر على النهج ذاته في التعامل معها بردات فعل فورية على المدى القصير واجتهادات ومبادرات انفرادية لا تستطيع معالجتها بشكل جذري. لذا لا يمكن بأي حال من الأحوال تحميل جهة حكومية بعينها مسؤولية معالجة البطالة، بل إنه من غير المعقول اتهام وزارات تلعب أدوارا ثانوية بالتقصير بينما هناك وزارات مسؤولة مسؤولية مباشرة عن معالجة البطالة لا تقوم بأي دور يذكر!
مشكلة البطالة تحتاج إلى قراءتها قراءة صحيحة ومن خلال رؤية استراتيجية مشتركة تكون بمنزلة خريطة طريق تنقل المجتمع إلى مستويات أعلى من التطور الاقتصادي والاجتماعي وتمكننا من مواجهة تحد البطالة بحلول ناجعة وجهود مشتركة تتوزع فيه الأجهزة الحكومية الأدوار كل حسب تخصصه ومسؤولياته. توزيع الأدوار هو من أجل تحديد المسؤوليات ومقدار المساهمة ونوعها التي ينبغي على كل جهاز حكومي القيام بها في إطار العمل المشترك وتحقيق الأهداف الوطنية الاستراتيجية. كل ذلك يستلزم استراتيجية وطنية للأربعين عاما المقبلة تحدد ماذا نريد أن نكون اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا؟ وكيف نصل إلى ما نريد؟ هكذا فقط يكون النقاش حول قضايانا الوطنية مفيدا وفاعلا؛ لأنه يرتكز على مرجعية وأهداف ومعايير متفق عليها، تكون بمنزلة البوصلة لتوجيه الجهود والموارد نحو أولويات وطنية. كما أن وجود استراتيجية وطنية يضع ضغوطا على الأجهزة الحكومية للقيام بما يجب عليها من واجبات وأدوار محددة، وبالتالي يتيح الفرصة لتقييم أدائها ومحاسبة مسؤوليها.
وبنظرة فاحصة لمشكلة البطالة نجد أنها ذات شقين، شق يتعلق بجانب العرض في سوق العمل والآخر يتعلق بجانب الطلب، ويبدو أنه يتم التركيز على جانب العرض ويغفل جانب الطلب. ويقصد بجانب العرض عدد العمالة الوطنية ونوعيتها في سوق العمل بينما يتضمن جانب الطلب عدد الوظائف المتاحة ونوعيتها في سوق العمل. وتظهر مشكلة البطالة وتتفاقم عندما تقوم بعض الأجهزة الحكومية بمهامها وتتقاعس أخرى عن أداء مهامها فتنشأ فجوة بين العرض والطلب كما في حالة البطالة، حيث يكون هناك فائض في العمالة نسبة لعدد الوظائف المتاحة. على سبيل المثال عندما تقوم وزارة التعليم العالي بتنمية الموارد البشرية فذلك ضمن مهامها وأدوارها، وإذا لم يقابل ذلك خلق وظائف فإن النتيجة الحتمية هي البطالة! إذاً السؤال الأهم من الوزارة (أو الوزارات) المسؤولة عن خلق الوظائف؟ هذا السؤال الغائب في جميع النقاشات العامة والخاصة، ويتبعه سؤال آخر على الدرجة ذاتها من الأهمية: هل الهدف من التوظيف معالجة مشكلة البطالة أم توسيع وتنمية وتقوية الاقتصاد الوطني؟ الإجابة عن التساؤلين تجلي حقيقة مفادها أن وزارة التعليم العالي تقوم بما أنيط بها من مهام، وأن مقولة بعض رجال الأعمال "مواءمة مخرجات التعليم لسوق العمل" مقولة يراد منها التخلي عن مسؤولياتهم والاستمرار في تضخيم حساباتهم البنكية على حساب قوة الاقتصاد الوطني ومتانته في ظل وضع ضبابي يقتات فيه القطاع الخاص على الإنفاق الحكومي دون أن تكون هناك سياسات تنموية واضحة المعالم تحدد مسار الاقتصاد الوطني وتوجه الدعم الحكومي نحو بناء صناعات تحويلية مستدامة. والحقيقة أن الاقتصاد الوطني قوي ماليا وليس إنتاجيا، وهو ما يجب الالتفات إليه إذا ما أردنا كمجتمع تجاوز التحديات القادمة ووضع سيناريوهات ما بعد النفط. الوزارة التي يعول عليها كثيرا في تكبير الكعكة الاقتصادية وخلق وظائف تمنح الخريجين أجورا تتناسب مع مستوى المعيشة المرتفع وتحولهم إلى أفراد منتجين يسهمون في بناء الاقتصاد الوطني هي وزارة الاقتصاد والتخطيط. لكن كيف لها القيام بما يلزم وما زالت وزارة المالية تستحوذ على جزء كبير من مهامها! وهكذا تستغرق وزارة الاقتصاد والتخطيط الخطط الخمسية، التي هي مجرد أمنيات وحبر على ورق لا يُلتزم بها، إضافة إلى أن مدتها قصيرة جدا أقل من الخطط الاستراتيجية لبعض الشركات! لا بد من تحرك لكسر حال الجمود بقرارات جريئة تخرجنا من المكوث في الدائرة نفسها. قد تكون الخطوة الأولى تنظيم منتدى وطني تشترك فيه جميع الأجهزة الحكومية لوضع استراتيجية وطنية لمعالجة البطالة. وربما بادرت وزارة التعليم العالي، كما عودتنا، بتبني تنظيم المنتدى من أجل مساهمة الآخرين في توظيف خريجيها وليس لأنها مسؤولة عن البطالة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي