وظيفة المراجعة الداخلية .. مهنة تحتاج إلى كادر
أخذتني أعمالي في الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين والجمعية السعودية للمراجعين الداخليين إلى أن أطوف خلال شهر واحد مدنا عدة في المملكة، من الدمام شرقا إلى الرياض إلى المدينة المنورة حتى مدينة جدة غربا، وقابلت كثيرا من المهتمين بالمحاسبة والمراجعة بشكل عام، والمهنيين المختصين في المراجعة الداخلية على وجه الخصوص، تحدث إليّ كثير منهم خلال ورش عمل مطولة عن معايير المراجعة الدولية الخاصة بالمراجعة الخارجية، وعن مهنة المراجعة الداخلية وأهميتها وخطورة إهمالها، وعن دورها في نجاح المنظمات بأنواعها في العالم بأسره وفي المملكة أيضا، وعن خطورة إهمالها على انتشار الفشل والفساد، واتفق الجميع على أن هذه المهنة (مهنة المراجعة الداخلية) لم تنل حظها بعد من الاهتمام الحكومي، رغم بدء الاهتمام بها كوظيفة.
من المدهش أن جميع من قابلتهم كانوا على حرص شديد على الحصول على التأهلي المهني في المراجعة الداخلية، الذي تمثله شهادة CIA (يقوم عليها المعهد الدولي للمراجعين الداخلين)، ومنهم من حصل عليها فعلا، ومنهم من يعمل على ذلك، لكن رغم هذا الاهتمام الفردي الكبير الذي لمسته، فإنه لا يوجد أي تنظيم أو قرار أو توجه لإقرار هذه الشهادة كشرط للالتحاق بوظيفة المراجع الداخلي. فإذا لم يكن هناك ما يجبر موظفي إدارة المراجعة الداخلية على هذه الشهادة، وليس هناك من يصرّ عليها كجزء من التأهيل الوظيفي، فلماذا حرص جميع من قابلتهم على هذه الشهادة وهذا التأهيل؟ من خلال النقاش الواسع الذي دار في ورش العمل التي نظمتها الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين ظهر لي بوضوح أن معظم الذين مارسوا هذه المهنة وجدوا أنه من الصعوبة العمل فيها دون أخذ تأهيل مهني كاف، إنه شعور عميق في داخل كل من مارس هذه المهنة، سواء برغبة منه أو تورط فيها ثم أحبها بعد ذلك. إنه شعور بالحاجة إلى الثقة بالنفس حتى يتمكن الممارس لهذه المهنة من منح الثقة إلى الآخرين، إنه الشعور بالمسؤولية والالتزام الذي يرى المهني أنه لزام عليه في ذاته قبل أن يلزم به الآخرين في منظمته. أضف إلى ذلك أن إجراءات تقييم الأعمال والنظم والأداء والرقابة تقتضي مستوى عاليا من المعرفة بكل هذا التنوع الذي تفرضه المهنة، أضف إلى ذلك أنها تحتاج إلى قدر من الحكم والتقدير المهني الذي يحتاج إلى تبصر بالعوائق وبصيرة نافذة في الواقع. لقد تنبه المهنيون الممارسون إلى كل هذه الوقائع التي تفرضها المهنة والتحديات التي عليهم مواجهتها فقرروا طوعا الحصول على التأهيل المهني الذي يضمن لهم مستوى أعلى من المعرفة ويضمن لهم اتصالا مستمرا بالجهات المنظمة التي تتولى مسؤولية تطويرها. وشعرت عديد من الشركات العالمية الكبرى والمحلية أيضا بهذه الأهمية الكبيرة للتأهيل فقررت أن يكون المدير التنفيذي لإدارة المراجعة الداخلية حاصلا على الشهادة المهنية CIA، ومن تلك الشركات القيادية شركة أرامكو السعودية.
فإذا كنا نتحدث عن مهنة بهذه الأهمية والحاجة الماسة عند الممارسين إلى تطوير قدراتهم وتواصلهم المستمر مع الجهات الإشرافية العالمية وحاجتهم إلى التعليم المستمر فإننا حتما سنواجه تسربا كبيرا من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص طالما بقينا نعامل الممارسين بطريقة عادية ووفق الكادر العام لموظفي الدولة. وهذا فعلا ما بدأت تعانيه مهنة المؤسسات الإشرافية الحكومية التي تحتاج إلى موظفين مؤهلين وخبرات واسعة مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق، بل حتى الممارسون في وحدات المراجعة الداخلية المستحدثة في الجهات الحكومية بدأوا في التسرب إلى القطاع الخاص والجهات القادرة على دفع قيمة ما استثمره المراجع الداخلي في ذاته من تطوير وتعليم وشهادات مهنية، إضافة إلى عضويته في المؤسسات الدولية والمحلية والإقليمية، فالقطاع الخاص قادر على تثمين المؤهلين ذوي الخبرات والحاصلين معها على التأهيل المهني، بينما بقي القطاع العام بعيدا عن ذلك، بل يعامل من أرهق نفسه وماله في الحصول على التأهيل المهني ومتابعة التطوير المستمر كغيره ممن لا تستدعي وظيفتهم مثل هذه الحاجة الذاتية إلى التطوير والتأهيل.
لا بد أن يشعر القطاع العام أن سوق العمل تغيرت كثيرا عما كان قبل عقدين من الزمان، فلقد بدأ المواطن السعودي يشعر بحجم التحدي وأصبح لديه الرغبة في التأهيل المهني المعقد والمتقدم الذي سيضمن له الدخل المناسب ويساعده على الحصول على حياة آمنة وكريمة، ورغبة في ذلك اتجه عديد من أبناء هذا البلد إلى المهن الأكثر تعقيدا المرتبطة بمؤسسات عالمية منظمة لها، لكن هذا ـــ بالتالي ـــ جعلهم أكثر حرصا على حقهم في المنافسة المشروعة والحصول عوائد تتناسب مع ما تكبدوه من تكاليف ووقت للحصول على هذا التأهيل الذي يتطلب خبرات سابقة يصعب تحصليها دون التضحية لسنوات بالعمل في وظائف متدنية الدخل كخطوة أولى في طريق نحو نيل الخبرات المطلوبة. كل ذلك في مجمله يجعل الموطن السعودي المؤهل يشعر بالأسى للبقاء في الوظائف الحكومية التي لم تقدر كل هذه التضحيات ولا تدفع له في مقابل استثماراته في ذاته. وهنا يجب على المؤسسات الحكومية أن تقدر حكم السوق وأحكام السعودة التي تفرضها الدولة وتتنافس هي أيضا للحصول على المواطن السعودي المؤهل من خلال تقديم رواتب وعوائد مرضية، وهو الأمر الذي سيجعل المواطن المؤهل يرضى بالبقاء في هذه المؤسسات الحكومية. هذا لن يحدث إلا إذا تم تطوير كادر خاص منفصل لموظفي المؤسسات الرقابية، ومنها ديوان الرقابة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق وهيئة الفساد يتناسب مع أهمية هذه المهنة وحجم التنافس على المهنيين المؤهلين الذي يجتاح السوق اليوم.