صياغة نظام للإدارة المحلية .. هو الحل
في قراءة متأنية للأحداث والقضايا والموضوعات الوطنية نجد أنها بدأت صغيرة وبسيطة ومحلية داخل حدود المدن والمناطق، ولكنها تُركت تكبر وتتضخم وتتعقد، والسبب الرئيس وراء ذلك أن الإدارات المحلية ممثلة في مجالس المناطق والمجالس المحلية والبلدية تقف مكتوفة الأيدي لا تمتلك الصلاحيات الكافية لوأد تلك المشاكل في مهدها. فها هي مشكلة المتسللين الإثيوبيين تطل علينا برأسها وتتحول إلى قضية تهدد الأمن وتروع الآمنين. وعلى الرغم من الجهود التي تُبذل في معالجة هذه المشكلة بعد استفحالها، إلا أنه كان بالإمكان التصدي لها في بدايتها من خلال المجالس المحلية بدلا من أن تتولى الهيئات المركزية عملية صنع القرار. ويمكن القياس على ذلك العديد من المشكلات مثل البطالة والفقر والجريمة والمخدرات والازدحام المروري ومشكلة النقل العام داخل المدن، فجميعها خرجت من رحم الأحياء السكنية، ولو قدر أن اكتشفت مبكرا لتم علاجها وحتى تجنبها والوقاية منها، لكن المجالس المحلية (ونعني بها مجالس المناطق والمجالس المحلية للمحافظات والمجالس البلدية) استشارية لا حول لها ولا قوة، ولا تملك إلا تقديم المقترحات والتوصيات! وفي واقع الأمر معظم المشكلات التي نعانيها على المستوى الوطني هي مشكلات في الأساس محلية، وتتطلب حلولا محلية وإدارية بتفاصيلها ورغبة أكيدة في معالجتها واستجابة فورية دون تباطؤ. فالإدارة المحلية هي الأقدر على معالجتها؛ لأنها الأكثر دراية بالشأن المحلي، ولا يمكن تحجيم دورها وإضعاف صلاحياتها عن ممارسة صنع القرار المحلي، وهنا كان لزاما التمييز بين القرارات المركزية ذات التأثير الوطني والقرارات المحلية التي يكون تأثيرها محصورا داخل نطاقها الجغرافي. ما يحدث هو أن الهيئات المركزية أخذت على عاتقها صناعة القرارات المحلية، إضافة إلى أعبائها ومسؤولياتها الوطنية، إلا أنها في الواقع لم تستطع ولن تستطيع أن تدير الشأن المحلي من بعيد، فالقضايا المحلية معقدة ومتشابكة، وتتطلب معرفة خاصة، ومتابعة يومية، ووضع تصورات مستقبلية بحسب الأولويات المحلية. لم تعد الإدارة المحلية ترفا سياسيا، ولكن حاجة ملحة تفرضها التغيرات والمستجدات على الساحتين المحلية والخارجية. كما لم يعد ممكنا التعامل مع ظواهر المشكلات دون الغوص في مسبباتها، ووضع حلول جذرية، أولها تطوير الإدارة المحلية، ليس عبر المزيد من التنظيمات المتفرقة، ولكن صياغة نظام يوحد المرجعية، ويحدد المسؤوليات، ويوزع الأدوار، وينسق الجهود بين جميع المستويات الإدارية، ويمنح صلاحيات إدارية ومالية كافية لصناعة القرار المحلي.
الوضع الراهن للإدارة المحلية ضبابي وضعيف، تتولى فيه الإدارات الفرعية للوزارات المركزية صناعة القرار، ولأنها تتبعها فهي تطبق توجيهاتها ليكون القرار بيروقراطيا مركزيا بطيئا، لا يعكس بالضرورة متطلبات المجتمعات المحلية وأولوياتها التنموية. هذا هو التحدي الكبير الذي يواجه الإدارة المحلية في أنها شكل دون مضمون، وهياكل تنظيمية دون صلاحيات ومسؤوليات كبيرة، ودون سلطات نافذة، وبعد ذلك نطالب أمراء ومجالس المناطق بعمل كل شيء، ونتطلع إلى أن يصنعوا الفرق، ولولا قدراتهم القيادية وجهودهم الشخصية لما تمكنوا من تحقيق إنجاز على الأرض. إن هناك فرقا كبيرا بين أن نتوقع أن تقوم الإدارة المحلية بأعمال روتينية والحفاظ على الأوضاع كما هي عليه، وبين أن تقوم بالتطوير وإحداث قفزة نوعية في التنمية المحلية ووضع خطة مستقبلية توجه وتحرك الموارد المحلية. إن الكلمة السحرية هنا هي التمكين، تمكين أمراء ومجالس المناطق من أداء الأدوار المطلوبة بمنحهم الاستقلال المالي والإداري، ومن ثم تقييم أدائهم. لم تعد المجتمعات المحلية كما كانت عليه بسيطة، بل أصبحت أكثر تعقيدا، وبات من الضروري البحث عن حلول جديدة إبداعية تستجيب للمستجدات، وتسهم في التكيف معها، وهذا لا يتأتى إلا من خلال منح مساحة أكبر لأمراء المناطق في صناعة القرار المحلي. المسألة لا تتعلق فقط بمسؤولية توفير الخدمات العامة، بل هي أكثر من ذلك بكثير، هي تتعلق بالتنمية المحلية واستكشاف الإمكانات وتوظيفها بطريقة كفوءة وفاعلة، تحقق الرفاهية، وتبني الخبرة، وتؤسس لثقافة محلية منتجة بنهج يضمن استدامتها. إن التخفيف من المركزية بمنح صلاحيات أكبر للإدارة المحلية لا يعني إلغاء المركزية أو التقليل من صلاحياتها، بل على العكس من ذلك تماما، فتفويض الصلاحيات آلية فاعلة لتضييق نطاق الإشراف، ورفع كفاءة المراقبة والمتابعة والمحاسبة على الأداء. كثير من الأحداث التي وقعت وتقع في المحليات يمكن السيطرة عليها بتحديد المسؤوليات بدلا من جعلها ضبابية.
الوقت الراهن يتطلب منا النظر للأمور بعين الحكمة والواقعية، وليس بعين الشك والريبة، وبالتالي التفكير خارج المعتاد، والجرأة في تناول الموضوعات ونقاشها بكل شفافية ووضوح، والغوص في أعماق المشكلة، ووضع حلول جذرية ناجعة ومبادرات شجاعة، وليس حلولا شكلية مهدئة، تأتي كرة فعل ما تلبث أن تنتهي وتتلاشى مع الوقت، لنعود مرة أخرى للمعاناة مع المشكلة ذاتها، ونكرر الأسلوب غير المناسب ذاته. من هنا كانت الدعوة لصياغة نظام للإدارة المحلية بدلا من التنظيمات المتفرقة، التي لا تمنح صلاحيات تتناسب مع حجم المسؤوليات الملقاة على عاتق أمراء ومجالس المناطق. المجتمعات المحلية مكان الحدث والتفاعل الاجتماعي، وهي جذور التنمية الوطنية، ولا بد من تطوير إداراتها حتى تستطيع الإسهام بشكل فاعل في جهود التنمية. توقعات المجتمعات المحلية كبيرة وطموحاتها عالية، وتحتاج إلى إطار مؤسسي ينسقها ويوجهها الوجهة الصحيحة. إن تطوير الإدارة المحلية يقرب صانع القرار للمواطن، ما يعزز الثوابت الوطنية واللحمة المجتمعية. الإدارة المحلية هي منطلق الحل للكثير من مشكلاتنا الاجتماعية والاقتصادية، ولا بد من تمكينها بصياغة نظام للإدارة المحلية يمنحها الصلاحيات ويحدد أدوارها، ويميز بين المسؤوليات المحلية والمركزية.