مناقشة طلب استقالة وزير الصحة!

طالب عدد غير قليل وزير الصحة بالاستقالة في ردود الفعل تجاه إصابة الفتاة رهام بمرض فقد المناعة المكتسب الإيدز، في المستشفى العام في جازان، أحسب أن هذا الطلب مبرر إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون صوابا. وذلك لجملة أسباب.
1 - من الواضح أن طلب الاستقالة ناشئ من مفهوم ''الخطأ الجسيم'' في القانون، أو ما يمكن التعبير عنه أيضا بـ''الخطأ العمد''. وهي مفردة تتجه مباشرة وبعيدا عن التفاصيل إلى إرادة العاقل الرشيد الذي تقع عليه المسؤولية القانونية والجزائية. ذاك لسبب بسيط في القانون وهو ما أن يخل الإنسان بما يجب عليه القيام به يصبح الفعل الصادر منه ''خطأ عمدا'' إذا ترتب عليه ضرر على الغير، وتسبب فيه.
إن ظاهرة ''عدم الاكتراث'' الشائعة في كثير من موظفي القطاع الحكومي سببها الحقيقي عدم التعامل مع ''الأخطاء الجسيمة'' بوصفها كاشفة عن سوء نية، وخطأ جسيم يتصف بكل أركان الجريمة التامة، والجناية التي يعاقب عليها فاعلها بالحق العام والخاص في كل دول العالم. أو بتعبير أدق لم أجد دولة من خلال اطلاعي المتواضع.. إلا وهي تعتبر في القانون أن نية الإضرار تعتبر متوافرة يقينا.. إذا كان الفاعل للجناية أو المتسبب فيها قد تصور ''النتائج'' التي تنجم عن فعله. في قضية رهام.. لا يمكن تصور الجهل بقتل نفس بريئة من دم ملوث بالإيدز، وفي كارثة جدة، جميع المقاولين والراشين والمرتشين. إننا أمام نتائج في كثير من قضايا الفساد.. لا يمكن تصور عدم حدوث ما حدث من أهوال وفجائع وضرر بالغ القسوة بالأبرياء وبالوطن كرامة وصورة أمام العالم.
2 - لا يجوز أن يكون الجاني ومن صدرت منه الجناية ''وزارة الصحة'' هو ذاته القاضي. وهو ذاته جهة التحقيق. وهذا باطل من كل الوجوه. وإن العقوبات التي أصدرتها الوزارة لا تعني شيئا، ويجب أن تخضع خضوعا تاما كاملا للولاية القضائية المستقلة في هذه الجناية دون الالتفات للجزاء الذاتي الذي تمارسه الوزارة على منسوبيها.
ويتطلب للسير في الدعوى، الحركة أولا من أولياء رهام إلى القضاء، ومساعدة الهيئات الحقوقية والإنسانية لهم ثانيا، لتأخذ العدالة فرصتها ولتحديد السبب المباشر. حسب أصول التقاضي العادلة.
وفي مناقشة السبب.. هل يكون الوزير بعدما أمضي هذه الفترة الزمنية المعتبرة، وبتمكينه من ميزانية هائلة، وبخبرته العلمية والعملية التي قضاها في الوزارة، مع بقاء المستشفى بالحال التي كانت عليها مقبولا وهل يعذر مثله؟ وهل يعتبر ما حدث قصورا خارجا عن إرادته وقدرته من منعه، أم تقصيرا؟ يدخل في حدود المسؤولية الإدارية، والجنائية بما ينتهي إليه الفقه القضائي للسبب والمباشر للجناية.
الواضح أن الوزير قد اطمأن ضميره إلى وجود التجهيزات الصحيحة، حيث لم يكن الخلل في نتائج المختبر، أو إمكاناته. واطمأن أيضا لوجود الشخص المؤهل علميا للقيام بهذا العمل، حيث لم يتم تعيين من هو خارج الاختصاص في هذا المكان البالغ الخطورة! فإن ظهر تقصير أو إهمال، يتم القبض على المتسبب المباشر وإحالته للقضاء العام، وليس لنظام العقوبات والجزاءات التابع للوزارة نفسها في إطار ما سبق ذكره.
وحيث إن الدكتور الوزير قد عبر شرطي البراءة، ''الآلة'' و''المختص'' بشكل صحيح. يصبح الطلب باستقالته ليس صوابا لقاعدة حرمة أخذ البريء بجناية الجاني. ''ولا تزر وازرة وزر أخرى''. عشرات الطائرات تسقط حول العالم، ويموت في كل واحدة منها مئات الأنفس البريئة وتخسر هذه الشركات مئات الملايين ابتداء من قيمة الطائرة التي غالبا تفوق 300 مليون دولار ومرورا بالتعويضات الهائلة لذوي الضحايا، وانتهاء بنقص حصتها من سوق الطيران لفترة غير قصيرة من الزمن. ولكن وزير المواصلات لا يستقيل ولا يطلب منه أن يفعل ذلك.. ألا كان سقوطها من خطأ بشري من شخص غير مؤهل للطيران المدني. أو مرخص له بالطيران، وما عدا ذلك.. يظل التحقيق والعقوبات على السبب المباشر فيه. في إطار المسؤولية والجزاء العادل.
كما أن طلب الاستقالة له وجه صحيح، لو سعى الوزير إلى تزييف الواقع أو تضليل العدالة، بالتستر على الوقائع. وهذا لم يحدث أيضا من الدكتور الوزير. بل أصدر قرار اللجنة وعقوباتها في أقل من أسبوع بما هو فوق المعتاد، وبخلاف قضية 175 ضحية سيول جدة التي لم تستوعب أسماء كثيرة.
المطالبة، بالاستقالة مبررة، ولكنها غير صحيحة، لكون الولاية العامة من اختصاص من يوليها، وهو أعلم بالمصلحة وبالتوقيت الملائم، وإن التحريض على الاستقالة لتسجيل موقف جديد غير مألوف لا قيمة له إن ترك من خلفه فراغا مربكا أو بديلا غير موثق.
وفي تقديري المتواضع! أقول: لا تستقل وزير الصحة الدكتور عبد الله الربيعة وأعانك الله على إصلاح هذا الواقع المتردي، إننا نثق بقدرتك على العبور بنا إلى الشعور بالاطمئنان حين ندخل مختارين إلى مستشفى عام. وإن كفارة ما مضى، مزيدا من العطاء النقي الطاهر، ومزيدا من الضراعة إلى الله بصدق وإخلاص الرجال من حولك، وبناء ما انهدم من الثقة في أداء الوزارة ومسؤولية منسوبيها ولترتفع العقوبة لمستوى يتناسب مع المآل والمصير وسوء المنقلب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي