إيش قلتوا؟ نصدّر ماذا؟
أول سلسلة في مشروع سلسلة الأحلام
.. ياه، يا لهذا المبنى الأنيق بإيواناته الواسعة، وردهاته المرمرية الصقيلة، التي تتلوى كالطرق الثعبانية، وتطل واجهاتُه بفخامةٍ وأنَفَةٍ، وفتريناتها الكريستالية تتوهج خلفها الملابس المترفة النسيج الصارخة الألوان من آخر صيحات أشهر بيوتات الأزياء والموضة، وتتخللها كالشرايين النشطة صعوداً ونزولاً هذه السلالمُ الكهربائية، تأخذ أفواجاً من الناس وتعود بأفواج.
وكنت أُطِلُّ وأراقب من مقهى في الساحة الرخامية اللامعة للمركز التجاري هذا، أرتشف الكباتشينو الإيطالية بمذاق الكستناء متوَجّاً بالكريمة مثل قمم جبال الألب المتوّجة بتيجان الجليد. لكن الذي لفتني ليس منظر شوارب الشارِبِين الغاطسة في الحليب بجانبي، أو غارقةً في الكريمة الدسمة اللذيذة، إنما منظر ثلاثة شبابٍ يتبخترون برهافة أغصان البامبو الغض وكأنهم على منصات عرض تتخاطفها بروق الكاميرات، ويضحكون من نصف أفواههم، ولا أدري ماذا يعملون بنصف الفم الآخر؟ ثم مرّت سحابةٌ معترضةٌ من الفتياتِ بعباءاتهن السود ذات الصنف البهيج الألوان المطوّر، فالتفت الشبابُ كتروسٍ متراكبةٍ بحركةٍ واحدة، ثم داروا جميعاً الدورة نفسها كراقصي الفلامنجو متابعين السحابة المبهرجة العطرة وهم متجمِّدون في مكانهم، وفجأة أخذوا قراراً تكتيكياً سريعاً وجرّوا أذيالَ ثيابِهم وراء السحابة الناعمة.
كانت لخيوط الدخان الغيمية المتصاعدة من أكواب القهوة والموكا والكباتشينو حولي مفعول التنويم المغناطيسي مع عطور القهوة التي تداعب الأنفَ، والأغرب تجر أجفانَ العيون فتثقلها.. بعد فترة عاد الشبابُ ووقفوا فوق رأسي يستأذنونني بالجلوس في الكراسي الفارغة بجانبي، وتهوّلتُ أن شكلهم قد تغير تماماً، فهم طلعوا أنصبَ قامةٍ، وأقوى عضلاً، بملامح منحوتة وكأنها قُدَّت من الصخر، وأجسادهم وكأنها خرجت صبّاً من قوالبِ فولاذ. مسحتُ الكريمة التي سالت من فمي المفتوح، وفمي به سعةٌ من الجانبين تتيح للأشياء السائلة أن تنساب بسهولةٍ للخارج، وسألت السؤالَ العظيم: "من أنتم؟" وأخبرني الشباب برصانة الرجال الثابتين والمهذبين أنهم لتوهم أنهوا التدريبَ بهذه المعسكرات التي فتحت إلزامياً للشباب بأن يقضوا فيها سنتين تحت التدريب اليومي الرياضي والبدني والعقلي والسلوكي المكثف. وسألت أتقصدون مثل تلك التدريبات العسكرية التي في بلدان أخرى؟ فقالوا، لا ونعم. كيف تجي هذه، سألتهم؟ فردّوا: لا، لأن غرضها ليس عسكرياً مع أن برامج تدريبها بصرامة التدريب العسكري، وهي معسكرات تضم عشرات الآلاف من الشباب بشكل دوري لأجيال متعاقبة. ولكن هناك شيء آخر، فقد أُقيمت فيها عشراتُ التخصصات المهنية المختلفة، فبعد التدريبات البدنية الصارمة في القسم الأول من النهار الباكر، نعود في القسم الثاني من النهار وننخرط في الورش المختلفة، كل حسب ما اختار من التخصّصات الكهربائية، والميكانيكية، وفنون البناء والحدادة والنجارة، والمهن الهندسية المعاونة، وورش البرمجيات وهندسة الإلكترونيات.. وبعضنا تقدّم وصار يعمل تطبيقاً محكماً ومجدولاً ومراقَباً في المصانع والشركات الكبرى خارج المعسكرات.
وقال لي الشاب الأول أنا سأعمل في ورشة متخصّصة في صيانة وإصلاح الرافعات الميكانيكية، وزميلي هذا برع في بناء التصاميم الداخلية، أما صاحبنا هذا الثالث فقد صدّرناه وسيستعد للرحيل. وصرختُ غاصاً برشفة الكابتشينو: صدّرتوه؟! أجاب الشاب: نعم صدّرناه لمشروع كبير في سنغافورة حيث تعاقد معه في زيارة استطلاعية، رئيس شركةٍ سنغافورية لمهارته في تلحيم الأنابيب تحت البحر.
وخرجت ضحكةٌ عالية مني، ضحكةُ فخرٍ وتعجّبٍ وإعجابٍ: إذن نحن نصدر العمالة الراقية التخصّص الآن؟ وتناثر رذاذ الكابتشينو من فمي الواسع متطايراً على ثياب الشباب، وصحوتُ على صرخةٍ جماعيةٍ: إيه، أنت.. انتبه، دمّرت ثيابنا.. نايم وتكح!