رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


حتى ينقشع دخان «ليمان براذرز» عنا

في كتابه المثير ''أكبر من أن تفشل'' Too Big to Fail يسرد أندرو سوركن تفاصيل مدهشة عن صفقات سرية ونقاشات طويلة لمحاولات إنقاذ أكبر بنك استثماري في العالم آنذاك، وهو بنك ليمان براذرز Lehman Brothers. يبدأ الكتاب بسرد حوارات جادة جمعت كبار التنفيذيين في وول ستريت تنتهي بإقرار الجميع بأن الحكومة في واشنطن لن تذهب بعيدا في إنقاذ أي بنك استثماري، وأن على هذه البنوك وحدها وعلى وول ستريت بأجمله مواجهة المخاطر المحتملة، عندها فقط شعر الجميع بمعنى المثل القائل ''أنا ومن ورائي الطوفان''. لقد حاول الكتاب جاهدا أن يشرح لماذا لم يستطع أحد إنقاذ هذا البنك العملاق رغم 160 عاما من الخبرات والرحلة الطويلة في عالم الاستثمار. لقد تورط البنك ومعه الكثير في ما سميت بعد ذلك بالأصول السامة Toxic Assets. والأصول هنا لا تعني تلك الأجهزة والمعدات والعقارات والمباني، بل فقط ما كان يجب تصنيفه محاسبيا في جانب ما يمتلكه البنك من تلك الأوراق المالية التي تصدر في مقابل ديون ورهون قد يصبح استيفاؤها أمرا خطرا وبعيد المنال. وعليك عزيزي القارئ ألا تقلق إذا لم تفهم ما هذه الأصول السامة بالتفصيل، ولا كيف نمت أو كيف تورطت فيها البنوك العملاقة حول العالم وعجزت عن فك طلاسمها أفضل العقول الاستثمارية، فهذا ألن جرنسبان ـــ كما يتحدث عنه الكتاب ـــ يقول رغم ما لديه من معرفة واسعة بالرياضيات، إلا أن التعقيدات التي تعمل بها بعض الأدوات المالية Financial Instruments خاصة ما يسمى CDOs ما زالت تحيره، وأنه حتى خروجه من مكتب الاحتياطي الفيدرالي لم يفهم كيف يستطيع المستثمرون خلق عوائد من خلالها وخارج الصالات. ويقول في عبارة خالدة ''إذا لم أستطع فهمها وأنا محاط بمئات من حملة الدكتوراه فكيف يمكن لبقية العالم أن يفهمها ويتعامل معها، هذا ما كان يحيرني''. لم تكن حيرة جرنسبان ولا قلقه بلا سبب؛ فتلك الأسواق المالية العالمية فشلت فعلا بعد فترة قصيرة من خروجه من مكتبة في التعامل مع هذه الأصول لتتقاذفها الخسائر وتنهار البنوك التي - لسوء حظها - كانت تحتفظ بها في وقت الأزمة. لم تكن هناك حاجة إلى مزيد من الفهم أيضا، فالكل كان عليه أن يضع تلك الأصول ومن يحملها تحت قدميه في محاولات يائسة للخروج من طوفان الإفلاس الذي اجتاح وول ستريت عام 2008.
يسرد الكتاب قصصا مدهشة عن محاولات دك فولد Fuld الرئيس التنفيذي لبنك ليمان براذرز آنذاك وبتوصية مباشرة من هنري بولسن Henry Paulson وزير الخزانة الأمريكي لإقناع واحد من أكبر الاستثماريين في العالم وهو وارن بافت Warren Buffett بالاستثمار في بنك ليمان، وإقناعه بأن المشكلة تكمن في بعض الضغوط التي يواجهها البنك من قبل بعض المستثمرين والشائعات التي اجتاحت وول ستريت وتسببت في انخفاض قيمة محافظ البنك. لقد حاول فولد جاهدا أن يقنع بافت بأن يضخ استثمارات تصل إلى خمسة مليارات دولار في بنك ليمان، وقد وافق بافت مبدئيا وبشروط صعبة، لكنه ما لبث أن سحب عرضه بعد دراسة وضع ليمان براذرز ومحافظه المالية واعتذر عن العملية برمتها. كان وضع ليمان براذرز في نظر بافت مثيرا للأسئلة وقوائمه المالية مستفزة، ومن عادات بافت أنه لا يستثمر إذا كانت هناك أسئلة حتى لو كان في مقابلها إجابات. يمضي الكتاب في تتبع محاولات فولد اليائسة لتسويق بنكه وأصوله، من ذلك لقاؤه بجم كرامر Jim Cramer وهو مستثمر شهير وصاحب برامج تلفزيونية بالتعاون مع CNBC، وهو اللقاء الذي انتهى بفشل فولد في إقناعه أو على الأقل استمالته للتعاون وتخفيض الضغط الإعلامي الذي يواجه البنك، لقد حاول فولد جاهدا إقناع كرامر بأن ما يدور في وول ستريت عن بنك ليمان محض شائعات ومؤامرت لدفع سهم البنك إلى الحضيض، لكن كرامر أحبط محاولات فولد بقوله إن لا أحد يؤثر فيه وإنه يقوم بعلمه الذي يشعره بأن بنك ليمان ليس لديه ما يبيعه، بل فقط في حاجة إلى النقد، يصرخ فولد يائسا ويقول لدينا أطنان من النقد، ويجبه كرامر بهدوء: فلماذا لا تدافعون عن سنداتكم بشرائها من السوق إذا كان وضعكم بهذه الصورة الممتازة. أعلن بنك ليمان براذرز إفلاسه في أيلول (سبتمبر) 2008 بعد أن انكشف الغطاء عما يقرب من سبعة مليارات دولار من الخسائر.
ليس المقال من أجل سرد هذه القصة ولا من أجل الدعوة لقراءة الكتاب، بل فقط تأييد لتلك المطالب بالتحقيق والتقصي عن جميع عمليات بيع الأوراق المالية التي تمت هنا في المملكة وفي كواليس مؤسساتنا المالية وشركاتنا العملاقة التي ارتبطت بتلك البنوك والمؤسسات المفلسة في وول ستريت، وبخاصة في الشهور والأيام القلائل التي سبقت الانهيار. تأتي هذه الدعوة بعد أن أصدرت لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية قرارها في قضية السندات المسمومة ضد إحدى المؤسسات المالية المحلية الشهيرة لمصلحة أحد المواطنين بتحملها كل خسائر المستثمر البالغة 13 مليون ريال. وإذا كانت (وفقا لما نشرته جريدة ''الرياض'') هيئة الخدمات المالية البريطانية المعنية بمراقبة التزام البنوك والمؤسسات المالية بالقواعد والقوانين المالية في بريطانيا قد أصدرت تقريرا في تشرين الأول (أكتوبر) 2009 يشير إلى أن أغلبية النصائح والتزكيات التي تم تقديمها بين عامي 2007 و2008، وذات العلاقة بالمنتجات الاستثمارية المهيكلة المرتبطة ببنك ليمان براذرز كانت نصائح وتزكيات غير مناسبة ومخالفة للقانون قد حصرتها الهيئة بـ157 استشارة، أقول إذا كانت هذه المؤسسات قد أقرت بذلك، فإن الأمر في غاية الأهمية والخطورة. وإذا كانت هذه المؤسسات المالية المفلسة قد فشلت في تسويق نفسها وأصولها السامة في وول ستريت فكيف نجحت في تسريبها للسوق السعودية والخليجية؟ وهل كانت ستنجح في الخلاص من الإفلاس برمي تلك الآفة علينا لو كان الوقت يسعفها؟ هذا سؤال خطير ويجب أن تكون لدينا القدرة على مواجهته والإجابة عنه بشفافية كبيرة لمنع استغلال عدم معرفة المستثمرين هنا بمخاطر الأصول والأدوات المالية وتنوعها، إضافة إلى جهلهم التام بما يحدث خلف الكواليس من تآمر بين وول ستريت والمؤسسات الأمريكية وبقية الأسواق المالية العالمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي