رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


لا نريد لهذه العشوائية أن تفسد علينا جامعاتنا

تطرقت في مقال الأسبوع الماضي إلى التوسع غير المدروس في التعليم العالي، وذكرت أن أغلبية الجامعات تسعى جاهدة إلى زيادة أعداد كلياتها والتوسع في برامجها، والسعي بكل ما تملك إلى زيادة طاقتها الاستيعابية من الكليات والطلاب والجمعيات والمراكز والهيئات والكراسي البحثية وغيرها. وذكرت أن انتشار التعليم العالي يدل على رقي الأمم إذا كانت ترافقه بنية تحتية مناسبة وخطط استراتيجية معدة واستعداد شعبي واع، ورغبة أكيدة في بناء صروح علمية عريقة وتقديم خدمة تعليمية بجودة عالية. إلا أن جامعاتنا ينقصها الكثير في هذا المجال، ونحن نشعر بأننا ابتعدنا كثيرا عن ملامح التعليم العالي ولم يعد يربطنا به إلا الاسم فقط. تعاني جامعاتنا شحا في أهم عناصر مدخلات النظام الأكاديمي، وهو الأستاذ الجامعي لدرجة أن بعض جامعاتنا تستعين بالمعيدين في تحكيم الأبحاث والبعض الآخر يستقطب كل عاثر وهائم على وجه الكرة الأرضية لسد العجز في هذا. ونحن نتساءل: إلى متى وجامعاتنا تبقى تغذي عجزها من أعضاء هيئة التدريس بهذه المصادر الضعيفة، وتعتمد على أنصاف الحلول لحل مشكلاتها، وكيف تجمع بين كل هذا وبين رغبتها في تحقيق أنظمة الجودة والاعتماد الأكاديمي ومَن يتحمل ضحايا هذه العشوائية؟
إذا كانت وزارة التعليم العالي تظن أن برنامج الابتعاث الذي انطلق قبل سنوات عدة سيغذي حاجة كلياتها من أعضاء هيئة التدريس، فهناك عوائق كثيرة تحول دون ذلك، وأسباب متعددة تبين لنا أن هذا المصدر لا يعتمد عليه في تغذية الجامعات من أعضاء هيئة التدريس، منها أن لوائح وزارة التعليم العالي واللوائح التنفيذية للجامعات تقيد قبول خريجي برنامج الابتعاث في مؤسساتها. فضلا عن أن أغلبية الجامعات لديها تحفظ على مخرجات برنامج الابتعاث وتنظر إليهم بريبة لدرجة أن بعض الجامعات تفضل خريجي برامج الدراسات العليا في الجامعات المحلية على خريجي برنامج الابتعاث.
فعلى سبيل المثال هناك نسبة كبيرة من خريجي برنامج الابتعاث معدلاتهم في مرحلة البكالوريوس أقل من جيد جدا، وهذا يتعارض مع لوائح وزارة التعليم العالي التي تشترط لتعيين حملة الماجستير على وظيفة محاضر أن يكون تقديره في مرحلة البكالوريوس لا يقل عن جيد جدا. كما أن أغلبية خريجي البرنامج (برنامج الابتعاث) لديهم ازدواجية في التخصص؛ فترى المبتعث تخرج في جامعة محلية في تخصص اللغة العربية - على سبيل المثال - بتقدير مقبول، ثم حصل على ماجستير في إدارة الأعمال بتقدير امتياز من جامعة أسترالية.
عندما تعرض مثل هذه الحالات على لجان الاستقطاب في الجامعات تصيبهم بالحيرة، فأمام أعينهم سجلان أكاديميان من جامعتين مختلفتين لتخصصين مختلفين لمبتعث واحد. السجل الأول لغة عربية بتقدير مقبول، والسجل الثاني إدارة أعمال بتقدير ممتاز، فكيف توافق الجامعات على وضع كهذا؟ وهذا يبين لنا أن هناك أسبابا لهذا التناقض منها عدم مقدرة الملحقيات الثقافية على رقابة المبتعثين في السنوات الأخيرة نتيجة كثرة أعداد الطلاب أو أن الملحقيات تعاني قلة في عدد المشرفين الدراسيين أو قلة خبرتهم أو الاثنتين معا.
السبب الثاني لعدم قبول خريجي برنامج الابتعاث كأعضاء هيئة تدريس في الجامعات أن الجامعات لديها عدد هائل من المعيدين والمحاضرين الذين تم استقطابهم حسب برامجها ورغباتها وخططها، وبهذا فهي ليست في حاجة إلى أن يأتي إليها مبتعث من خارج بيئتها ويعيّن ضمن أعضاء هيئة التدريس، وهذا يقودنا إلى السبب الجوهري في أن ليس كل من حصل على درجة الماجستير أو الدكتوراه مؤهلا أن يعمل أستاذا جامعيا. فالنظرة إلى أن كل من يحمل الدكتوراه يمكن أن يُدرس في الجامعة نظرة قاصرة ومحدودة ومتخلفة ودخيلة على التعليم العالي؛ لأن إعداد عضو هيئة تدريس يحتاج إلى خطوات عديدة وقنوات طويلة تبدأ منذ تعيينه معيدا، ثم يوضع تحت التجربة ويحتك بالبيئة الأكاديمية ويمارس أعمالا مختلفة ما بين إدارية روتينية وأكاديمية مبسطة، ويطالب في تلك الفترة بالحصول على قبول للدراسة العليا ثم يبتعث إلى جامعة ذات سمعة عريقة، وتتم مراقبة خطواته الأكاديمية والسلوكية من قبل الملحقية الثقافية وتزود جهات الابتعاث بتقارير دورية منذ ابتعاثه حتى عودته. ولا يحق للمبتعث تعديل برنامجه الدراسي حتى يحصل على موافقة من الجامعة التي ابتعثته.
وعندما تكتمل شخصيته ويمر بكل هذه القنوات ويعود إلى جامعته الأم في بلده يعاد تقييم مسيرته الأكاديمية خلال البعثة، ويتم التأكد من مدى التغير الإيجابي في شخصية المبتعث، خصوصا في النواحي الأكاديمية ومدى مقدرته على المساهمة في بناء الجامعة والمجتمع، عندها يكون مؤهلا أن يكون عضو هيئة تدريس ويبدأ خطواته ما بين التدريس والبحث في مزيج يصعب الفصل بينهما.
أما أن يأتي إلى الجامعة كل من حصل على مؤهل عال ويُمكّن من العمل الأكاديمي وهو في الأصل موظف في إدارة حكومية أو رجل أعمال أو ملحق بإحدى السفارات أو الملحقيات في الخارج يعمل في الصباح وينضم إلى برامج الدراسات العليا في الجامعات، فهذا هراء ولا يعتبر مصدرا ثريا لتغذية الجامعات بأعضاء هيئة التدريس. بطبيعة الحال من حق كل فرد أن يواصل تعليمه العالي ويروي ظمأه من العلم والمعرفة الموثقة، حتى ولو كان على رأس عمله فهذا حقه ومجهوده وتضحيته يجب أن نقدرها ونجلها، إلا أنه لا يمكّن من التدريس في الجامعة؛ لأنه لم يترب فيها ولم تحتضنه منذ نعومة أظفاره، بل أتى من بيئة مختلفة ثقافيا عن بيئة الجامعة تحتاج منه إلى وقت للتكيف معها والتعود على تقاليدها والإيمان بعقيدتها؛ فالجامعات ثقافات تنظيمية تختلف عن بقية إدارات الدولة حتى عن المنظمات القريبة منها كالتربية والتعليم والكليات المتوسطة وما في حكمها. وأريد أن أختم فأقول إننا لا نريد لهذه الفوضى وهذا التخبط وتلك العشوائية أن تفسد علينا جامعاتنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي