ريادة الأعمال .. صناعة محلية
تعني ريادة الأعمال بمفهومها الشامل ''التفكير الإبداعي والنظر للأمور خارج المعتاد، سواء كان ذلك في مجال الاقتصاد والبدء بالمشاريع التجارية أو الشؤون الاجتماعية وأنشطة الحياة بأوجهها المتعددة''. فالإبداع والمبادرة والجسارة ليست حكرا على قطاع الأعمال، إنما تشمل القطاع الحكومي ومؤسسات المجتمع المدني وقرارات الأفراد وتصرفاتهم. ويستدعي هذا المفهوم الشامل لريادة الأعمال أن ينظر إليها على أنها حالة مجتمعية وثقافة مشتركة ومنظومة متكاملة من القيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تدفع التفكير الإبداعي والابتكار وتشجعه وتقود نحو خلق مجتمع مبني على تطوير المعرفة والخبرة التراكمية في جميع مناحي الحياة. وكلما كانت مكونات المجتمع وتنظيماته ومؤسساته تنتهج الإبداع والبحث عن حلول جديدة كان ذلك أدعى لنجاح التنمية الوطنية وتحقيق مستويات أعلى من الإنتاجية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والرقي الحضاري. وتشكل جودة التعليم والتدريب ومستوى تطور بيئة الأعمال ونضج الإدارة المحلية حجر الزاوية في خلق مجتمع ريادة الأعمال. فلا يمكن تصور - على سبيل المثال - أفراد مبدعين ومبادرين إلا من خلال نهج تعليمي يشجع الطلاب والطالبات ويدربهم ويثقفهم على حرية التعبير والثقة بالنفس وحب التعلم والاستكشاف والتحليل والتخيل، وخوض تجارب جديدة دون وجل أو خجل، والأهم أن يكونوا قريبين من واقعهم يوظفون معارفهم ومهاراتهم لفهم ما يدور حولهم في مجتمعهم المحلي ويبادرون بتنميته ومعالجة مشكلاته. وفي هذه الحالة تكون معايير التعلم وتقييم أداء الطالب أو الطالبة مبنية على الخروج عن النص والرتابة الفكرية إلى مساحة كبيرة من الإبداع وإبداء الرأي وبناء شخصية قوية تسجل موقفا محددا وواضحا تجاه ما يجري حولها. قضيتنا الأولى في قطاع التعليم وغيره من القطاعات التنموية هي: كيف نجسر الهوة بين النظرية والتطبيق؟ أي بين ما نقول ونصرح به وما نفعل على أرض الواقع. فالمجتمع في كثير من الأحيان يعيش حالة من الانفصام بين الشأنين الخاص والعام يصل حدا يمكن وصفه بالرياء الاجتماعي. هذا الانفصام بين المصلحة الخاصة والهم العام والفجوة بين الفكرة والتطبيق يؤدي إلى حالة من الفوضى تتسبب في ظهور الفساد الإداري وتقلل من قدرة المجتمع على التطوير وتدفع الأفراد إلى الاستسلام لمنطقة الراحة والبحث عن الأمان الوظيفي؛ لأنه من الصعب على كثير من الرياديين الشباب النجاح في مثل هذه البيئة.
لذا، يشكل التفكير المثالي الرسمي والشكلي تحديا وعائقا كبيرين في معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية بأسلوب إبداعي يقدم خيارات مبتكرة. وربما كان السبب الرئيس وراء ذلك سيطرة التنظيم البيروقراطي وقيمه على كثير من مناحي الحياة مصحوبا بالمركزية الشديدة حتى غدت التعاملات الورقية الرسمية الشكلية التي لا تمت في كثير من الأحيان بصلة للواقع هي الأصل وليس ما يجري من أحداث على أرض الواقع. وأثر هذا سلبا في بيئة الأعمال، فهي في مجملها انتهازية وليست تنافسية، والسبب أن قطاع الأعمال يقتات على الإنفاق الحكومي، سواء في مرحلة التأسيس أو في مرحلة تصريف المنتج عبر ضمانات نظام المشتريات الحكومية. وهنا لا بد من ملاحظة الفرق بين تطوير المنتجات للتصدير واستهداف احتلال مراتب أعلى في المنافسة العالمية وجلب أموال للاقتصاد الوطني، وبين أن يكون الدافع الحصول على عقود حكومية ليكون المنتج للاستهلاك المحلي، وهو ما يعني عدم جلب أموال إضافية للاقتصاد الوطني، بل الأدهى والأمر عندما يكون الاعتماد في تلك الشركات على العمالة الأجنبية لتتسرب الأموال إلى خارج الاقتصاد الوطني. والنتيجة تحقيق أرباح عالية، لكن ليس في مقابل قيمة مضافة وخبرة معرفية وتميز في المنتج. ما يجب إدراكه هو أن القوة المالية لا تعني القوة الاقتصادية؛ لذا يلزم ألا نتوهم ونغتر بالكم المالي لأنه لا يعكس الجهد الفكري والعضلي، إنما يعكس قيمة سعر البترول في السوق العالمية. وأخشى أن ما يحدث في الاقتصاد هو تنافس بين رجال الأعمال على اقتطاع أكبر جزء من الكعكة الاقتصادية بدلا من محاولة تكبيرها. والدليل توجه النشاط الصناعي والاقتصادي نحو إنتاج السلع الاستهلاكية، واعتماد طرق تنفيذ المشروعات الحكومية على مقاولي الباطن، أما التستر على العمالة الأجنبية التي تسيطر على معظم المنشآت الصغيرة فهو أكبر شاهد على الانتهازية. وفي ظل هذا النهم في الحصول على أكبر حصة ممكنة من الثراء المالي بأقل جهد عضلي وفكري لم يكن هناك دافع نحو تطوير منتجات مبتكرة وغابت إدارات البحوث والتطوير في معظم الشركات الوطنية!
إن السبب الرئيس وراء انحسار ريادة الأعمال في المجتمع هو البيروقراطية والمركزية الشديدة التي تقلص أدوار الإدارة المحلية وتجعلها تلعب أدوارا صغيرة وهامشية. وهذا يعني سيطرة الهيئات المركزية على القرار المحلي، وهي بعيدة عن الواقع المحلي موضوعا ومكانا؛ ما يعزز الفجوة بين النظرية والواقع وبين صانع القرار والمواطن. وريادة الأعمال بطبيعتها محلية، فالأفراد والمؤسسات يسعون ويبادرون في مجتمعهم المحلي نحو تلبية احتياجاته التنموية. لكن كيف السبيل للتعرف على هذه الاحتياجات إذا لم تمتلك الهيئات المحلية الصلاحيات الإدارية والمالية لصياغة أولويات المجتمع المحلي وتنفيذها. إن الإدارة المحلية كسلطة عامة هي الأقرب للمواطن، ودون منحها صلاحيات تتناسب مع أدوارها وتمكنها من أداء مهامها، سيكون من الصعب تطوير ثقافة ريادة الأعمال. الإدارة المحلية شرط أساس لنجاح التنمية المحلية التي هي جذور التنمية الوطنية، فالمجتمعات المحلية مكان الحدث والفعل والنشاط الاجتماعي، ولإحداث تغيير في الثقافة المجتمعية لا بد من إتاحة الفرصة للمجتمعات المحلية لإدارة شأنها المحلي بذاتها، فالمشاكل المحلية تتطلب حلولا محلية إبداعية، وسكان المحليات هم الأقدر والأكثر معرفة على ذلك. ريادة الأعمال تحمل في طياتها المبادرة والاندفاع نحو تحقيق الأفضل وتتطلب مساحة من العمل المحلي المشترك، حيث تتضافر الجهود وتتلاقح الأفكار الإبداعية ويتم خلق بيئة محفزة للشباب والشابات على توظيف قدراتهم وإمكاناتهم من أجل أنفسهم ومن أجل الآخرين.. ريادة الأعمال صناعة محلية تتطلب إدارة محلية ناضجة!