الجنون .. أكثر من جرعة واحدة..!
بات الإنسان مشوشا أكثر من أي وقت مضى، وغير قادر على التركيز في شيء محدد، ومضطربا دائما، الرغبات في نفسه في تنامٍ مستمر دون توقف، وما إن يملك شيئا، حتى يُصبح قديما، أو تتحرك رغبته تجاه آخر أفضل وأجمل كثيرا.
ومفهوم ما يليق وما لا يليق تغير وتبدل، وبات كل إنسان ملزما بشكل أو بآخر أن يدفع ثمن السيارة التي يفرضها عليه المجموع كتصنيف اجتماعي.. وتصنيف طبقي. أو وظيفي فيما يقتنيها لأكثر ثراء، يجب أن يختلف عن الذين هم أقل منه، ومن هم دونه.
إن الإنسان مطلوب منه أن يستهلك باستمرار ما تنتجه الشركات الكبرى، ويجب أن يقتني كل شيء حتى ما ليس في حاجة إليه! بل توسع الأمر في تغيير قناعات الناس، وعقولهم.. وقناعاتهم إلى تقبل الدين والديون، بوصفها جزءا مساعدا على شراء الكماليات، أي أن الإنسان يشتري اليوم بالدين ما ليس في حاجة إليه، بذات الحماسة لشراء ما هو في حاجة فعلية إليه، لكون الدين أصبح جزءا من المال، الذي يسهل الوصول إليه عبر بطاقة من البلاستيك!
ولذا لم يكن مستغربا، أن يعلن أحد المصارف السعودية أن أرباحه ''المعلنة'' ـــ لعام واحد من البطاقات الائتمانية تجاوزت مائة مليون ريال في عام واحد، أي أن المصرف كان يربح ثمانية ملايين ريال وثلث المليون ريال، كل ثلاثين يوما! أي أكثر من ربع مليون ريال يوميا!
هذا الرقم المخيف في تأثيره على حياة الناس، تحديدا 277 ألف ريال كل 24 ساعة فقط!
في مجتمع يفترض أن 70 من كل مائة شخص يعاني أزمة في السكن، وأن 30 من كل مائة مواطن مدين بـ30 في المائة من راتبه للمصارف المحلية!
الإنسان تم تصنيع وعيه، حيث أصبح كائنا مستهلكا، وإن قوى هائلة تصنع القناعة بتغييره، لشراء ما ليس في حاجة فعلية إليه، هذا الإنسان الذي لم يعد بقادر على أن يلتقي بذاته الحقيقية أبدا؛ كونه محاصرا بالصورة، والكلمة، والإيحاء المؤثر والتي تلاحقه وهو ينهب شوارع مدينته حتى أضيق أزقتها وممراتها القديمة.
من منا الآن قرأ كتابا متصلا مع التركيز على فكرته وتلخيص معانيه، من منا قادر على أن يصمت لفترة قصيرة من الزمن، دون أن يتحسس جيوبه، ليقبض على الهاتف النقال.. تسع مرات! وليدخل على الرسائل الفورية تسع مرات، وليعبث بالنظر إلى المقاطع المرسلة، بكل تناقضاتها بين أجمل صوت يقرأ سورة ياسين، وبين مقطع خادش للحياء يظهر فيه، كل ما كنا نصنفه فيما سبق من زمن.. أنه أعظم الحرمات، وأكبر الكبائر!
إننا نقرأ كثيرا عبر الرسائل الرقمية، ما لسنا في حاجة إلى قراءته، ونعرف ما لا ينفعنا معرفته، ونتابع بحماسة كل التفاصيل فيما يجري هناك، وهناك، بما لسنا معنيين به! أو يهتك بعضنا بعضا دون تثبت، أو دليل، أو بيّنة معتبرة.
فقط، لأن كل شيء صار قريبا، وفقط لأن المعلومات باتت فائضة فيضانا أغرق التركيز في العقل البشري، كأنها فوضى متعمدة، وكأنها تشويش متربص ببني البشر أن يصابوا به، وألا يتعافى أحد منه، إن الطريدة المشوشة دائما عاجزة عن الخلاص، ودائما بعيدة عن رؤية ما حولها بوضوح! دخلنا لجة الإعصار مختارين، ثم أصبحنا ضحايا عاجزة، لجنون دورانه حول ذاته دون توقف.
وهذا سبب أن جيلا بشريا كاملا، بدأ يتكلم في كل شيء، وبمختلف اللغات، ولكن من العسير ومن الصعب عليه أن يفهم شيئا محددا بعيدا عن تخصصه! إن قُدر له أن يفهمه بالشكل الصحيح! وهذا سبب وجود ـــ أساتذة ــــ في الجامعات، يمشي بلسانه في الحديث، ويتردى مرات كثيرة وكأنه يتعلم المشي للتو! وحين يحكم على موضوع كأنه يرجم بالغيب، لا يتحدث عن حس محسوس، وكيان حاضر مدرك لكل ذي بصر!
شعوب كثيرة باتت تقترب من صفات بعضها بعضا، ومن سيئات بعضها بعضا، ومن رذائل بعضها بعضا، والمقلق أن كل شعوب العالم تقبض على أسوأ الصفات، وأرذل الطبائع في الشعوب الأخرى لتنقلها، ولتتقمصها، وتغيب عن حسناتها وفضائلها، والجانب المنير منها.
هذا يجعلنا أكثر صبرا، وأكثر حكمة حين نجد من يتكلم عن النتيجة بلا مقدمتها! كمن يتحدث عن النزاهة في مجتمع.. لم ينشأ على تربية أخلاقية ودينية ووطنية.. بالمطلق! كمن يتحدث عن عفة الأطباء النفسية والسلوكية.. وكل مناهج التعليم في الطب، دون حصة واحدة في الأخلاق، وطهارة الباطن!
كمن يحدثك عن تنمية الحضارة الأوروبية واستنساخها في شعوب فشلت بعد 100 عام من النظام المروي في جعل أحد يحترم إشارة مرور. أو احترام مشاة أو ممنوع الوقوف!
هكذا يصدمك في مرات كثيرة الحديث عن النتائج دون معرفة مقدماتها الأولية، أو دون السعي إلى وجودها. فلا يزال يوجد من يلقي بنفسه في النهر كونه الوسيلة الأقرب للصعود إلى القمر حين تنعكس صورته المنيرة الجميلة عليه!