أمرهم غريب.. يُفضِّلون الموت على ربط الحزام!
والله، إننا لنتألم أشد الألم عندما نسمع عن وفيات وإصابات خطيرة ناجمة عن حوادث المركبات، التي من المفروض أن يكون وجودها بأيدينا نعمة، وها هي تصبح نقمة على البعض منا. فلو سألت إنسانا قدر الله عليه أن يعيش بقية حياته معاقاً نتيجة لحادث سير، لوجدت أنه يتمنى لو لم تطأ هذه المركبات أرضنا وبقينا نركب الدواب في تنقلاتنا، ناهيك عن شعور من فقدوا حبيباً غالياً. ولكن، أليس من الممكن أن نتعايش مع هذه الوسائل الحديثة، التي تجلب لنا الراحة وسرعة الانتقال؟ فنحن بالتأكيد لا نجهل أخطارها ونعلم أننا نحن الذين نسيرها وهي لا تسيرنا. ونذهب إلى أبعد من ذلك، فنؤكد أننا على علم بكثير من مسببات الحوادث، ومع ذلك فكثيرون منا لا يأبهون بالتحذيرات من عواقب السرعة الزائدة، وعدم العناية بالدواليب (الكفرات)، وعدم التقيد بربط حزام الأمان إما عن جهل أو عناد، وهو موضوع هذا المقال.
فعندما يصل إلى مسامعي خبر حادث أليم، مُصاحَبا بوفيات أو إصابات مُقعِدة، أول ما يتبادر إلى ذهني حزام الأمان. ويملؤني شعور بأن الأحزمة في تلك المركبة المنكوبة لم تكن مُستَخدَمة، وهذا في الغالب هو الواقع المؤسف. وتمر الأيام والسنون ولا شيء يتغير، لأننا بطبيعتنا الصحراوية الفًظة أمة تفخر بتمسكها بالعناد وعدم الاستجابة لصوت العقل، على الرغم مما يحدث أمام أعيننا من كثرة إصابات الحوادث. ولم نسمع أن أحداً من المواطنين تساءل عن الحل لهذه المعضلة، التي باتت تؤرق أجفاننا وتلتهم أحبابنا من بين أيدينا، ونحن ننتظر متى يأتي دور الضحية القادمة! الأقدار بيد الله، وإن شاء الله أن إيماننا بربنا فوق كل اعتبار. ولكننا مأمورون باتخاذ الحيطة والحذر مع الاتكال على الله. ونحن بطبيعتنا كبشر نبحث دائماً عن الأمان في كل ما يخص شؤوننا الحياتية، أمان لأنفسنا ولأولادنا ولأموالنا، فلماذا لا نهتم بأمان أرواحنا وهي أهم ما نملك من حطام الدنيا؟ فحزام الأمان هو إحدى الوسائل الفعالة التي ـــ بإذن الله ـــ تُقلل من حدة إصابات الحوادث المرورية بنسبة تصل إلى 70 في المائة. ولا بُدَّ من أن الكثيرين منا قد سمعوا عن شخص ما بأنه نجا ـــ بإذن الله ـــ "بأعجوبة" من حادث شنيع. ولو تقصينا الأمر لوجدنا أن ذلك الإنسان كان مستخدما حزام الأمان أثناء وجوده داخل تلك المركبة، التي أصابها الحادث. ونتمنى لو أن الذين ينقلون خبر الحوادث إلى الصحف أنهم يتأكدون من ربط الحزام من عدمه حتى يتعظ كل من يقرأ الخبَر. وليس لدينا أدنى شك في أن التسيب في مراقبة تطبيق قوانين سير المركبات له دور كبير في عدم التقيد بأمور السلامة المرورية في بلادنا، عكس ما هو حاصل في بلدان العالم كافة. ولذلك نجد أن إصابات الحوادث المرورية في المملكة تفوق أي دولة في العالم، وهو أمر لا يدعو إلى الفخر.
والذي يحيِّر فهمنا ويقلق نفوسنا هو ذلك الموقف السلبي من معظم أفراد المجتمع، الذين لا يودون حتى أن يتساءلوا عن أسباب كثرة ضحايا الحوادث، وكأنهم قد اقتنعوا بأنه لا حادث بدون موت أو إصابات مُقعِدة لا قدر الله. ولم يكن يدور في خلدهم أن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ قد تفضل علينا بعقول تساعدنا على تحسين أوضاعنا وترشدنا إلى تطوير أمور حياتنا وإيجاد الحلول لكثير من المعضلات، التي تواجهنا، ومنها حوادث السير. وعلى الرغم من عدم وجود توعية منظمة لأهمية ربط أحزمة الأمان، وهو أمر سهل وغير مُكلف، فإن الكثيرين منا قد سمعوا بطريقة أو بأخرى عن أهميته في إنقاذ الأرواح ـــ بإذن الله. وحتى إذا لم يبلغهم ذلك، أليس لدينا ولو جزءا يسيرا من حب الاستطلاع والبحث عن حلول تساعد على تقليص عدد الإصابات؟ فلا يخلو بيت من بيوتنا ممنْ لم يفقد حبيبا أو قريبا في حادث سير. هذا في حد ذاته يكفي لأن يكون دافعاً لنا للبحث عن مخرج ينقذ أرواحنا ويحمي أبداننا.
ونهيب بالهيئات المجتمعية وبالمسؤولين في التربية والتعليم والصحة ومسؤولي المرور والدفاع المدني والمؤسسات الكبيرة الخاصة والعامة بألا يتركوا الوضع على ما هو عليه الآن، إنها مهمة وطنية قبل كل شيء. أما السكوت والتواكل والتهرب من المسؤولية أو إلقائها على الغير، فلن يزيد الأمر إلا سوءاً وتصبح الحوادث كوارث يومية. فعدد المركبات في ازدياد مستمر والفوضى المرورية تتفاقم وصغار السن من السائقين يسيطرون على الساحة، أليس ذلك من دواعي زيادة القلق؟ وإن كانت المسؤولية الكبرى تقع على عاتق مسؤولي المرور، فهي من صميم مسؤولياتهم.
اقرؤوا الصحف اليومية، ستجدون كل يوم فاجعة، مرة في الجنوب وثانية في الشمال. أما في الوسط، من المنطقة الشرقية إلى الغربية فلا تقل عن المناطق الأخرى من حيث فظاعة الحوادث. شباب في مقتبل العمر، وفي غفلة من الأهل، يموتون في حادث وسط الليل، بسبب السرعة وسوء الرؤية وقلَّة الخبرة، وفوق ذلك عدم ربط حزام الأمان! وأب يقود مركبته وبجانبه زوجته وأولاده، فيتعرض لحادث لا فرق فيه منْ المخطئ. يتوفى الأب والأطفال وتبقى الزوجة على قيد الحياة وشاهدة على أصعب لحظة من حياتها. وها هي حوادث نقل المعلمات التي لا تتوقف، وما يحدث فيها من وفيات وإصابات لشابات يبحثن عن لقمة العيش، تاركات فلذات أكبادهن أو أمهات ينتظرن عودتهن من السفر اليومي الطويل. والسبب الرئيس عدم التقيد بربط حزام الأمان، إما لجهل في أهميته أو تهاون غير مُبرَّر. وما أكثر ما نشاهد أبا يقود مركبته غير مكترث لسلامة أولاده المتناثرين خلفه في حوض المركبة، وهو لا يدرك ـــ هداه الله ـــ أن أي وقفة مفاجئة قد تودي بأرواح فلذات كبده بسبب الرجة العنيفة التي تلي لحظة الوقوف. وهو دون شك يعرف أن المركبة مجهزة بأحزمة المقاعد، ولكنه مع الأسف لا يعتبرها أكثر من ديكور!
وكنت منذ عدة أيام أسير على طريق الدمام ـــ الرياض، فشاهدت حادثا فظيعاً نتج عن السرعة الزائدة، وفي الموقع أجساد متناثرة. وبمجرد ما ابتعدت قليلاً عن مكان الحادث إذا بالشباب الذين هم في الاتجاه نفسه يواصلون سيرهم بسرعة تزيد على 170 كيلومترا في الساعة، أي أنهم لم يأخذوا العبرة من الحادث الذي لم يكن قد مضى عليه إلا وقت قصير. فمن الواضح أن المسألة تتعلق بالتربية الأساسية للأولاد ومستوى الثقافة العامة لديهم وبالذوق السليم. وتخيلوا لو أن عَدُوًّا هاجمنا واعتدى علينا وقتل منا سبعة آلاف نفس، وهو عدد موتى الحوادث السنوية، هل نتركه ونظل مسالمين؟ أبداً، بل سنفزع ونتعقبه حتى نقضي عليه! ولكننا الآن مع الحوادث مسالمون! تناقض غير مقبول.