مَن لشوارع المدن؟
يقاس تحضر الدول بقدرتها على إدارة الشأن العام، ويقاس مستوى رقي مجتمعاتها بتصرفات أفرادها في الأماكن العامة، فالاحتكاك بين الناس في الشوارع والأسواق، على سبيل المثال، يفصح عن أخلاقيات المجتمع وثقافته، وهو الاختبار الحقيقي للالتزام بالقانون واحترام حق الآخرين والصبر وتحمل الانتظار في الصف ورؤية الأمور من منطلق المصلحة العامة، وليس من منطلق الأنانية والتعدي واللامبالاة. ولأن الشوارع مكان انتقال الناس فهي الأكثر استخدامًا، يحدث فيها التفاعل الاجتماعي، وبخاصة في وقت الازدحام. في هذه الأوضاع الصعبة في الأماكن المفتوحة واختلاط الناس بعضهم ببعض تظهر أخلاقياتهم وثقافتهم المجتمعية ومدى تحضرهم. والمجتمعات تتفاوت في مستوى الرقابة الذاتية الذي هو جوهر التحضر والرقي الإنساني وجود الحياة. فالإحسان أعلى مراتب السلوك الإنساني، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. والعبادة بمفهومها الشامل تتضمن التعامل مع الآخرين والإحسان إليهم، وفي الإسلام "الدين المعاملة". لذا، فإن الرقابة الذاتية هي الوسيلة الوحيدة لضبط المجتمع وانتظامه، وإذا لم يدرك الناس أن النظام وضع من أجلهم ولمصلحتهم فلن تستطيع الجهات الأمنية مهما بلغت من إمكانات وانتشار أن تسيطر على الفوضى المرورية والسلوكيات الخاطئة. فالسلوك الحضاري في الأماكن العامة يتطلب نضجًا ثقافيًا وقيمًا عالية، ورؤية مشتركة تقود نحو التضحية بجزء من الحرية الشخصية من أجل الانضباط العام. فربما اعتبر البعض الوقف عند الإشارة الحمراء ضد حريته الشخصية وتسلبه حقه في مواصلة سيره، لكنه في واقع الأمر يحقق مصلحة أكبر، وهي عدم وقوع فوضى مرورية تعوقه والآخرين من مستخدمي الطريق من مواصلة المسير؛ لأن كل واحد منهم يرغب في المرور على حساب الآخرين، وهو ما يشاهد عندما تتوقف إشارة المرور عن العمل.
الأدهى والأمر عندما يتعدى الأمر إلى استباحة الطريق من قِبل الأجهزة الحكومية والمؤسسات الخاصة ومواصلتها عمليات الحفر والدفن في كل طالع شمس؛ حتى لا تكاد ترى شارعًا غير مشوه، هذا إضافة إلى ما تسببه من تعطيل لمصالح الناس، وما تسببه من ازدحام وتلوث بيئي وبصري وضوضاء.. لكن السؤال: لماذا يحدث كل ذلك؟ والجواب ببساطة ليس هناك هيئة إدارية محلية مسؤولة عن إدارة شوارع المدينة! وإذا قيل إن البلديات ومجالسها هي المسؤولة، فليس هناك نظام يضمن التنسيق بين تلك الأجهزة والمؤسسات، وإن كان هناك نظام، فهو إما غير صالح أو غير مطبق بدليل غياب معايير تخطيط المدن وعدم توافر قنوات تحت الأرض لتمديد الخدمات العامة والكشف عنها أو تعديلها كلما دعت الحاجة إلى ذلك. من العيب الإداري ألا نحسن المحافظة على استثماراتنا العامة التي أنفق فيها الملايين، بل المليارات وتكون شوارعنا بهذه الصور المشوهة. مشكلتنا كأفراد وجماعات ومؤسسات أننا لا ننظر إلى الأماكن والقضايا العامة برؤية مشتركة، وأن هذه المشروعات وضعت من أجلنا ومن أجل منفعتنا، وأن علينا جميعًا دون استثناء المحافظة عليها كما نحافظ على ممتلكاتنا الخاصة. لكن ــــ مع الأسف ــــ لم نبلغ بعد هذا النضج الاجتماعي وتلك الثقافة والوعي لإدراك أننا نعيش في السفينة نفسها، وأنه لا يمكن تحقيق المصلحة العامة إلا بتكاتف الجميع. فكيفما نكون تكون شوارعنا؛ لأننا نحن من يستخدمها إما نفعًا وإما ضررًا.
والحقيقة، أن أصل المشكلة هو عدم شعور الناس بتملك المكان العام وكأنهم لا دخل لهم فيه. وهذا يفسر لماذا يهتمون بتنظيف مساكنهم ومركباتهم على حساب الشارع! هذا الانفصال بين السكان والمكان سببه غياب النظرة المشتركة في أن المدينة هي البيت الكبير، وأن السكان عليهم أن يقرروا في أن يجعلوا مدينتهم منظمة ومرتبة ونظيفة صالحة للعيش والعمل أو العكس. لكن كيف لهم أن يقرروا ذلك وليس هناك هيئة محلية تتيح لهم المشاركة في صنع القرارات المحلية التي تعنيهم؟ صحيح هناك مجالس بلدية ومحلية ومناطق، لكن مع وجودها ما زالت المشكلة قائمة ولا يلوح في الأفق أي بصيص أمل لمعالجتها، أو على أقل تقدير إيقاف تشويه الشوارع سلوكًا وشكلاً. ذلك أن هذه المجالس لا تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي وتشكو من ضعف الصلاحيات وبعضها يتم اختيار الأعضاء بالتعيين وليس بالانتخاب كما في حالة مجالس المناطق والمجالس المحلية في المحافظات. وقد تكون المجالس البلدية المعنية بإدارة المدن، وتقع عليها مسؤولية تخطيط المدينة والحفاظ على ممتلكاتها ومعالجة مشكلاتها، إلا أن الوزارات المركزية تتخطاها في كثير من الأحيان بحجة توفير الخدمات للمواطنين فتقوم بالحفر دون استئذان من المجلس البلدي، حتى إن كان هناك طلب بالسماح فالمجلس البلدي لا يملك منع توفير الخدمة للمواطنين. أما فيما يتعلق بحالة المرور وضبط السلوكيات الخاطئة فهي لا تدخل ضمن اختصاصات المجلس البلدي، فما زال هناك قصور في الإدارة المحلية من حيث إنها مجزأة، وليس هناك هيئة واحدة مسؤولة عن إدارة المدينة. وهذا ما يقلل من قدرة أي جهاز محلي على معالجة المشكلات التي تتصف بدرجة كبيرة من التعقيد والتشابك وتتطلب حلولاً شمولية وليست مجزأة.
المطلوب للتصدي لظاهرة تشويه الشوارع على المدى البعيد تطبيق معايير التخطيط الحضري، وإنشاء أنفاق تحت الأرض لتمديد الخدمات، وعلى المدى القصير فرض رسوم جزائية على كل من يقوم بالحفر واشتراط إعادة الشارع كما كان. كل ذلك يعتمد على أولوية الأماكن العامة وحرص المجلس البلدي وسكان المدينة على الحفاظ عليها، وعلى وجه الخصوص مدى الاهتمام والاحترام الذي يلقاه الشارع. هذا يعني أنها مسألة وعي وثقافة اجتماعية وأسلوب للعمل الحكومي المحلي وتكاتف السكان وقناعتهم بأن الشارع ملك للجميع وعليهم الحفاظ عليه واستخدامه بطريقة منظمة ومحترمة ومستديمة.. فالشارع مرآة تعكس مستوى تحضر المجتمع ورقيه!