مصر العظيمة .. والخليج الماجن قراءة في تكوين العقل الجمعي .. الجزء الثاني
كنت أتمنى من السعوديين في مصر إن أتيحت لهم الخطابة، وهم من يمثل ضمير أمة، وخطباء آيات الكتاب فيها، أن يقولوا للمصريين الذين نحبهم جميعا، لكونهم ذواتنا وأنفسنا، دمهم دمنا، وعرضهم عرضنا، يصيبنا ما يصيبهم، ويفرحنا فرحهم، ولو كان صغيرا! تمنيتُ وبعض الأماني - عسيرة - أن يخبروهم: أن آن الأوان للثورة على أنفسكم! إن الله قال لبني إسرائيل - اقتلوا أنفسكم، أي اقتلوا تلك النفس التي تجعل ذاتها (أعلى) و(أسمى) وأرفع من كل أحد في الأرض، وأعلى وأسمى وأرفع من كل إخوانكم في الإسلام والعروبة.
توقفوا عن النظر إلى غيركم على أنهم رعاة إبل عمياء، يقودها راع فاقد البصر في صحارٍ نفطية هائلة.
توقفوا عن إنتاج أفلام تصور من يدعمكم عند كل محنة ''ولله المنة والفضل'' .. بوصفهم شعبا ماجنا، لا يظهر إلا مع السكارى والراقصات .. في الوقت ذاته الذي تخونه فيه زوجته مع السائق الآسيوي، والتي تصورونها هي أيضا عديمة الشرف والجمال، وكتلة من الشحم المترهل الشنيع، إيغالا في التشنيع والتهوين وامتهان الكرامة الجمعية للخليج وأهله في كل إنتاجكم السينمائي.
كنت أتمنى ممن يمثل وطنه حين يخطب في مصر أن يقول للمصريين توقفوا عن إنتاج ولد دقي جديد - يصور الخليجيين في أرذل الصفات النفسية والعقلية والاجتماعية.. احترموا آدميتهم وإنسانيتهم وإسلامهم وعروبتهم وأحسابهم وأنسابهم.
تمنيت أن أسمع دعوة أن تكون عطية الخليج لمصر مشروطة بتوقيرهم وعدم امتهان كرامتهم من المطار وإلى المطار. وأن تكون لها ميزة المفاضلة .. لكون المال العام الذي تتبرع به الحكومات هو من الاقتصاد الوطني للناس جميعا، وأن من يحتقرنا لا يستحق العطية، ومن يمتهن كرامتنا الجمعية كخليجيين ليس جديرا بعظيم الهبات منا.
تمنيت أن أسمع من يخبرهم عن موقفهم .. منا لو وصفناهم بما يصفوننا دائما به، البلادة، والمجون، وانعدام العفة في ترد عقلي مثير للسخرية والضحك عليه من الجميع.
هذا سبب ردة فعل المصريين الطيبين من إخوانهم في الخليج بعد كل أزمة صغيرة عارضة، حيث تم تكوين العقل الجمعي المصري تجاه الخليج وأهله بهذا التكوين، وترسيخ هذه الصورة النمطية من خلال التكرار الدائم من عهد جمال عبد الناصر حتى يومنا هذا.
الماليزيون تقدموا على مصر مليون مرة .. وهم لا يصفون أنفسهم (بأبوة الدنيا) ولا أمها، ولا يجعلون غيرهم تلاميذ شحاتين على أبواب علمهم ومعارفهم! علموهم فك الخط من أمية ضاربة وعمى مطبق للجميع.
لماذا يتجه بعضنا إلى هناك ليقول لهم إن هاجر عظمها الله لكونها تحمل (الجنسية المصرية)، لذا حق لكم أن تفاخروا الكون والعالم؟ وليقول لهم: أنتم .. ومن بعدكم الطوفان.
مصر تحتاج إلى التواضع .. أكثر من رؤية النفس، وشعبها في حاجة ماسة إلى إعادة تكوين وعيه، بحيث يكون متوازنا في نظرته لنفسه تجاه سائر بني آدم، وأن يقل عنده الشعور بعظمة ذاته وغباء من حوله، خاصة الخليجيين.
يجب أن يرجع المصريون إلى أنفسهم بحق اليوم وبعد الثورة، كي يزيلوا هلكوست - تعظيم الذات - من عقولهم لا أن تجعل في مقرراتهم التعليمية!
مصر عظيمة بصلاح وعظمة الإنسان فيها، صعدت كما صعد كل شعوب العالم، وانتكست كما انتكسوا، خسرت معارك حتى مع ذاتها، وانتصرت ببسالة وشجاعة وشرف عظيم .. إلا أن هذه صورة متكررة في الشام، وحلب، والهند مع البريطانيين وفي حضارة ما بين النهرين سومر وعشتار والجزيرة العربية.
مصر خسرت حروبا، ومنيت بهزائم مريرة، كما هي سنة التاريخ والمجتمعات، في حاضرها وماضيها، واليابان منيت بخسارة أعظم .. لكن الإنسان هناك انتصر على هزيمته وعاد يتكامل من المحاق حتى تكامل قمره وبدره .. وبات مبتلعا للمنتصر الذي ابتلعه، وقويا أقوى ممن انتصر عليه، ومنتجا بما يعجز عنه القوي الذي قهره وأذله.
لكونه شعبا عظيما، في التزامه حين يلتزم، صادقا كل الصدق مع ذاته ومع غيره، وفيا حين يعد، بما لا زيغ ولا مواربة فيه، شعب كل يوم يقدم لنفسه وللبشرية هدية جديدة، ومنفعة مضافة، وتقنية، وعلما تجعل حياتهم أسهل وأفضل وأجمل. ورغم هذا لم يُدرسوا أطفالهم سلالة - التعاظم للذات - على غيرها، ولم يمنحوا أحدا من أعماق التاريخ جنسية يابانية، ولم يأت رجل من السعودية ليقول لهم إن نبيا من آلاف السنين كان يابانيا وحق لكم أن تفخروا وتفاخروا أهل الأرض.
لكون حاضرهم غنيا وعميقا وجميلا فلم يعد لهم من حاجة إلى طلب معونة مجد من ميت، أو من هرم فرعوني! أو قصص القص واللصق التي تدور كالشمس والقمر على كل شعوب العالم في النصر والهزيمة والصعود والانحدار.
حين ينتشي المستمع بالثناء الكاذب عليه يشير هذا إلى أمرين .. أن هنا متكلم يخالف قوله الواقع، وهنا أيضا آذان تنتشي به لكونها في عوز شديد إليه.
وهذا ما لا أتمناه لشعب مصر .. إخواننا الذين هم مثلنا وليسوا أفضل منا بالضرورة، ويجب ألا نعين على غرور ليس في الواقع المصري اليوم ما يبرره.
مع تعادل فرص التعليم والمعرفة والإنتاج بين شعوب العالم توقفوا جميعا أرجوكم من هذا التخدير المغيب لمسؤولية إصلاح الحاضر المصري المأزوم بالركون إلى هرم من حجر، وتاريخ غاب أهله بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا أحد عليه من الشاهدين.