البنى التحتية خط أحمر ..
بنى مواطن منزلا خرسانيا ليسكنه دون أن يمدد الكهرباء والماء والهاتف والتكييف والصرف الصحي وتصريف الأمطار، واستكمل السقوف والأرضيات والبويات والديكورات، وعندما أراد أن يسكن المنزل أراد أن يضيء الإنارة فلم يجد التمديدات والأفياش اللازمة لمد الأنوار بالكهرباء، وعندها كسر المنزل من جديد ليمدد الكهرباء وأعاد ترميمه ومعالجة الجدران والأسقف والأرضيات واشتغلت الأجهزة الكهربائية والأنوار.
بعد ذلك أراد أن يستخدم الحمامات فقيل له إن المنزل دون تمديدات صحية، ففعل كما فعل في المرة الأولى، وهكذا بالنسبة للهاتف والتكييف والصرف الصحي وتصريف الأمطار، ففي كل مرة يحتاج إلى خدمة ما كتصريف الأمطار عند هطولها يقوم بتمديدها من جديد بعد التكسير والترميم وبتكاليف باهظة وبجودة ضعيفة تجعله كل مرة يدفع تكاليف مالية ونفسية لصيانة البنية التحتية لمنزله الذي كان من المفترض أن يؤسسها ويطورها أثناء بناء المنزل، ليكون منزلا متكامل الخدمات منذ الوهلة الأولى.
بكل تأكيد لا يمكن أن نصدق هذه القصة لأنه لا يعقل ذلك، نعم فلا يمكن أن نصدق أن مواطناً يبني منزله دون مخطط خرساني ومخططات مصاحبة للكهرباء والهاتف والتكييف والتمديدات الصحية وتصريف الأمطار، ولا يمكن أن نصدق أيضاً ألا ينفذ مخططات البنية التحتية للمنزل، بعد أن ينتهي من بناء الهيكل الخرساني فما هو متعارف عليه لضمان الجودة وخفض التكلفة، أن يكون التنفيذ متزامنا من البداية حتى النهاية، ليجد كل من تخصص في مجال الأدوات الكهربائية والهاتفية والصحية والتكييف ما يلزمه لتشغيل خدماته، ولو أن أحداً بنى منزله دون هذه البنى التحتية ثم قام بتطويرها بعد استكمال المنزل لاتهمناه بالجنون أو اتهمنا الجهة المشرفة على تنفيذ منزله أو المقاول بالفساد سواء الفني أو الإداري أو المالي.
ما هو مؤسف أكثر بل ومؤلم أن كافة الأحياء إلا النزر القليل جدا في مدننا يتم تطويرها كما هو حال المنزل الذي تم بناؤه دون بنى تحتية، نعم معظم الأحياء تطور بشكل جزئي من جهة البنى التحتية والعلوية (خطوط عريضة للماء والكهرباء وسفلتة أولية) ومن ثم يأتي المواطنون لبناء مساكنهم على مراحل تمتد لعقود وتأتي الجهات المقدمة للخدمات ( كهرباء، ماء، هاتف، إنارة، سفلتة، وصرف صحي) لتستكمل هذه الخدمات بشكل منفرد وعلى فترات زمنية متباعدة، فكل يحفر ويدفن حتى باتت شوارعنا مشوهة وأحياؤنا ورش عمل لا يقف العمل فيها وتتكلف الدولة والشركات المعنية بالخدمات تكاليف باهظة، ويعاني المواطنون نفسيا واجتماعيا بل وحتى أمنيا من استمرارية أعمال تطوير البنى التحتية وصيانتها وتواجد كافة أنواع العمالة بالحي لسنوات طويلة.
جولة سريعة في الطرق التي تربط الأحياء مع بعضها بعضا في أي مدينة خصوصا الكبرى يتأكد لك أنها ليست أحسن حالاً من مثيلاتها في الأحياء، فما إن يدفن أحد المقاولين ما حفره بعد أن مدد ما هو منوط به تمديده من خدمات ويقوم بسفلتة الشارع بشكل مخز من ضعف الجودة، يبدأ المقاول الآخر بالحفر لتمديد خدمات أخرى وهكذا، ولقد رأيت شوارع رئيسية مشوهة تعاني الحفر والتمديد والدفن وإعادة هيكلة الشارع لأكثر من 12 سنة وما زال الشارع يخضع للصيانة حتى تاريخه ويعاني مستخدموه الزحام الشديد والتعرجات وتشوهاته التي أضرت بسياراتهم بشكل كبير.
معظم مدننا وأحيائنا حديثة مقارنة بمدن وأحياء الدول الأخرى وكان من الممكن الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في تطوير بنى تحتية متكاملة منذ الوهلة الأولى لتطوير الأحياء أو على أقل تقدير بناء شبكة أنفاق خدمات لتمديد أي خدمة يراد تمديدها دون الحاجة للتكسير والحفر والترميم، وإعادة البناء مرة أخرى بتكاليف مضاعفة وبجودة رديئة كما هو وضعنا الحالي، حيث تكشف نعمة الأمطار التي أصبحت نقمة على كثير من المدن ضعف شبكة الخدمات وعدم اكتمالها وعدم قدرتها على القيام بما طورت لأجله، ويكون الوطن والمواطن هما الضحية كما هو الحال حاليا في تبوك.
أحد المسافرين يقول إن طريقاً يتم تطويره على مسافة 30 كم شرق محافظة القرية العليا بدأ في التفتت وتكوين الحفر قبل افتتاحه بشكل كامل ما يشير إلى رداءة السفلتة ونوعية المواد المستخدمة ولقد تضرر الكثير من السيارات من الوقوع المفاجئ في الحفر الناشئة عن تفتت وتقشر الأسفلت، والأمثلة كثيرة ولا حصر لها.
الكل يتساءل إذا كان هذا حالنا ونحن نعيش في وفرة مالية غير مسبوقة وإنفاق حكومي سخي وحرص كبير من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده الأمين - حفظهما الله - فكيف سيكون حالنا لو تغيرت الظروف ونزلت أسعار البترول وأصبحت البلاد تعاني عجزا ماليا كما هو حالنا في التسعينيات؟!
من الواضح أن بلادنا تعاني نوعين من الفساد، الأول إداري حيث ضعف الخبرات لدى المسؤولين والموظفين، حيث التوظيف والترقي بناء على العلاقات والنسيج الاجتماعي لا على الجدارة، والآخر فساد مالي حيث خربت الذمم وأصبح تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة سائداً، ولا شك أن الفساد الأول يضعف الفاعلية ويحرف مسارات التنمية عن غاياتها كما يضعف الكفاءة ويهدر الموارد كافة ولا يمكن البلاد من الاستفادة منها الاستفادة المثلى، أما الفساد المالي فيحرم البلاد من مواردها ويبددها ويخرجها إلى الخارج إلى غير رجعة في أغلب الأحوال.
والأمل كل الأمل أن تدعم الحكومة هيئة مكافحة الفساد لتكوين فريق متخصص لمكافحة فساد البنى التحتية بشقيه الإداري والمالي، ذلك أن هذا الفساد يجب أن يكون خطا أحمر لأنه يهدر طاقات البلاد ويعرض مواطنيها للأخطار والمهالك ويحرمهم الحياة الكريمة الصحية كما يحرم البلاد من تحقيق مبدأ التنمية المستدامة.