مَن المستفيد من الاحتفاء بأعياد الميلاد؟
تسعى النفس البشرية إلى الفرح وتربط محطات الحياة به وتختلق أي مناسبة لإبرازه وإظهاره. ورغم أن الشعوب تختلف في طريقتها وآلياتها في إبراز الفرح والاحتفاء به إلا أن هدفها جميعا واحد، وهو إظهار الفرح والشعور به.
ولم يغب هذا عن الشركات والمؤسسات الهادفة إلى الربح، فما فتئت تسعى بكل وسائلها في استغلال حب الناس في إظهار الفرح، ليس من أجلهم والرغبة في إسعادهم، بل بهدف استثمارهم واستغلالهم وسلب مدخراتهم، حتى إن كثيرا من المناسبات الاجتماعية والوطنية لم تظهر وتأخذ هذا الصيت إلا بدعم مبطن من الشركات الهادفة إلى الربح. فعلى سبيل المثال أعياد الميلاد التي تقدسها أغلبية ثقافات أهل الأرض - وسرنا نحن في ركابهم - ما هي في الأصل إلا فكرة اقتصادية تمت صناعتها بدهاء وعبقرية بهدف ترويج المبيعات وزيادة الأرباح، ولو أن ظاهرها مشاعر عاطفية وإحياء ذكرى سنوية. ووصل الأمر أن بعض الشركات تسوّق لقضية وطنية أو حادثة إنسانية أو يوم تاريخي من أجل أن لديها منتجات تناسب هذه الأحداث.
ورسخ ديننا الحنيف وهذب تعامل الناس مع أحداث الحياة ولم يتركها عبثا، ومنها: كيفية التعامل مع الفرح، ومتى يكون، وكيف يكون. فحدد لنا عيدين لا ثالث لهما، وهما بمثابة محطات للاسترخاء والغبطة والسعة وشيوع المحبة. وحدد علماء الدين الاحتفال بالأعياد على هذين العيدين دون غيرهما اقتداء بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل إن بعضهم أنكر أي احتفاء أو إظهار طقوس الفرح وتبادل التهاني بخلاف هذين العيدين، ويرى أن من احتفل بغير هذين العيدين فقد ابتدع في الدين. وثبتت هذه الأفكار في أذهان الناس، خصوصا هنا في بلادنا، وكان إلى وقت قريب يُنكر على من يحتفل بعيد غير عيد الفطر وعيد الأضحى، حتى ظهر إلينا من يحلل الاحتفال بعيد الميلاد، وعيد الأم، وعيد الزواج، وغيرها.. فأدخل الناس في نفق يصعب الخروج منه، ولا ندري كيف كان الاحتفال بعيد الميلاد حراما قبل بضع من السنين، فيما الآن أصبح حلالا؟ ماذا تغير؟
وأنا هنا لا أريد أن أدخل في عرض الجانب الشرعي لقضية الأعياد والاحتفال بالمناسبات الوطنية والاجتماعية والشخصية، فأنا لست مؤهلا لذلك وأترك الموضوع لأهل الشأن، إنما أريد أن ألقي الضوء على أثر الأعياد في الجانب الاقتصادي للفرد والأسرة والمجتمع والأثر المادي الذي تحدثه كثرة الأعياد على دخول الناس. وأتمنى ألا يفهم من كلامي هذا أنني ضد الفرح والبهجة، بل على النقيض تماما، فأنا أنادي أن تكون حياة الفرد كلها، وليس جزءا منها، فرحاً معسولاً واخضراراً أبدياً ليس تمحوه الليالي، فهذه من قيم ديننا الحنيف الذي لم ينكر الفرح والتغني به وإحياء الأمل العذب، إنما أريد أن أطرق الأبواب وأذكّر الأحباب من مغبة الاندفاع والانصياع بالاحتفال ببعض الأعياد التي دخلت مجتمعنا دون أن يكون لها أساس ديني أو تاريخي، التي يقف وراءها شركات عملاقة تروّج لمنتجاتها لأنها تريد استثمار رغبة الناس في إظهار الفرح من أجل تعظيم أرباحها وزيادة حملة أسهمها، كما أن كثرة الأعياد التي ليس لها سند ديني أو قومي تتحول مع الوقت إلى قيم وعادات اجتماعية تثقل كاهل الناس وتلقي عليهم أعباء مالية هم في غنى عنها.
دعونا نأخذ لمحة عن الأعياد التي بدأت تدخل حياة الناس تدريجيا نتيجة بعض الفتاوى التي أباحتها بعد أن كانت محرمة. لو ترك الموضوع وأطلق للناس الاحتفال بكل مناسبة شخصية أو محلية أو عالمية فسنضطر إلى الاحتفال بما يقارب من أكثر من 20 عيدا، وهذه تستنزف الكثير من المال وتجعل الرجل المليء فقيرا معدما. فهناك العيدان (الفطر والأضحى) وعيد الأم وعيد الحب وعيد رأس السنة، وهناك عيد الزواج، ثم يخرج الأمر إلى الغير، فهناك أعياد ميلاد أبناء الأقارب والجيران والأصدقاء ومن في حكمهم، وكل هذه تحتاج إلى بذل المزيد من المال في شراء ورود وحلوى وملابس ومجوهرات وهدايا ودروع وغيرها، بل يصل الأمر إلى إهداء سيارة. تخيل معي عائلة متوسطة تشمل الزوج والزوجة وخمسة أبناء وأرادوا أن يؤدوا واجبهم ويحتفلوا بهذه الأعياد، كم المبلغ الذي يفترض أن تدفعه هذه الأسرة لتؤدي واجبها؟ وماذا سيتبقى لها لبناء مستقبلها؟ أول معضلة تواجههم هي أنهم سيقضون السنة كاملة وهم من عيد ميلاد الابن إلى عيد ميلاد البنت الكبرى فالصغرى فالابن الذي يليه، ثم يظهر أن هناك عيد ميلاد لصديقة البنت وصديق الأب، وماذا عن أقارب الزوجة والجيران أو ابن عم الزوج أو ابن خاله.. وتظل الأسرة في دوامة لا تنتهي، وفي سلسلة من الأوهام والأكاذيب التي اختلقتها المجتمعات لتقييد نفسها وتبديد أموالها تروجها لها شركات تريد فقط تكوين قيم اجتماعية هدفها استثمار أموالنا لتعظيم أرباحها.
نتمنى من رجال الدين وأصحاب الفكر والرأي والمثقفين والمشرفين على البرامج التلفزيونية الشهيرة أن يأخذوا موضوع الأعياد بجدية ويلقوا الضوء على هذه الظاهرة التي تفشت في مجتمعاتنا بعد أن كانت دخيلة عليها، وهذا لا يعني عدم الفرح، لكن نراعي المبرر الشرعي والمنطقي، كما يهمنا كثيرا الجانب الاقتصادي للفرد، فنتحاشى تبديد الأموال في ورود تباع بمئات الريالات ما تلبث أن تذبل ثم ترمى في سلة المهملات، أو حلوى باهظة الثمن أطول من قامة رجل تقسم إلى أجزاء ثم ينتهي بها المطاف إلى صناديق النفايات. لا نريد لأمورنا أن تتعقد وتأخذ منحى تصعب السيطرة عليه، وهنا نريد أن نقول للمترفين ومن يسير في ركبهم من المهزومين: عليكم الكف عن إحياء أعياد واحتفالات لا تمت لثقافتنا بصلة ولا نستطيع نحن الوفاء بها، فأغلبية الناس من ذوي الدخول المحدودة إن تمكنت منهم هذه الخزعبلات فلن تتركهم حتى يصبحوا فقراء معدمين يرون أنفسهم بعد حين مضطرين إلى التواري عن بعضهم لأنهم لا يجدون ما يشاركون به أقرانهم.