رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مسحورة ولكن ..

حين رأيتها لأول مرة قبل سنتين في غرفة انتظار السيدات في أحد المستشفيات الخاصة، كانت تسير بخطى متأرجحة، ووالدتها تمسك بيدها، جلست على كرسي بجواري، وكان نحول جسدها لافتا للانتباه، رغم عباءتها الفضفاضة، وبين الحين والآخر، كانت والدتها تسألها بحنان وإشفاق، إن كانت تريد شيئا تحضره لها من ماء أو كعك، فكانت الفتاة ترفض بصوت واهن ضعيف، من ينصت إليه يظنه يخرج من أعماق بئر مظلم سحيق، وبعد فترة انتظار لا بأس بها، دخلت الممرضة لتعتذر عن تأخر الطبيب بسبب ظرف طارئ، "وتشاورنا" إن كنا نرغب في الانتظار أو تأجيل الموعد، وقد أجابت تلك الأم بلا تردد: "راح أنتظره لو ما يجي إلا تالي الليل"، كان في صوتها أنين معاناة واحتراق ألم، جميع السيدات فضلن التأجيل ما عداي وتلك الأم، حين أصبح المكان خاليا، قلت للأم: "ربي يشفي ابنتك ويقرّ عينك بعافيتها ويأجرك على حنوك عليها"، ولكأنني رميت حجرا في بركة راكدة، عجيبة هي المشاعر الإنسانية حين تتلمسها يد حانية وتربّت عليها، أخذت الأم في البكاء حتى أنني تمنيت لو لم أحدثها، حين هدأت أخبرتني ونزف إحساسها يغلف كل كلمة تفوهت بها: "ابنتي هذه عمرها 25 عاما، زوجّها والدها وعمرها 18 عاما من شخص لا تريده ويكبرها بـ 20 عاما، كانت متفوقة في دراستها وتحلم بأن تكون طبيبة، لكن زوجها رفض أن تكمل تعليمها، أنجبت ثلاث بنات، وتضايق زوجها من عدم إنجابها للولد وأصبح أهله يعايرونها بذلك، خاصة أن عائلته معظم أطفالهم هم ذكور، قبل عام تغيرت حالة ابنتي فأصبحت تصاب بتشنجات، وحساسية غريبة في جلدها، وفقدت شهيتها للطعام، إلا مما يبقيها على قيد الحياة، عملت لها تحاليل شاملة، فكانت النتيجة أنها سليمة ولا تعاني أي مرض عضوي، يصبح تركيزها معدوما أحيانا، ولا تهتم بنظافتها الشخصية في أحايين كثيرة، وقد ذهبت بها لرقاة كثيرين وجميعهم أخبروني بأنها مسحورة، ومن وضع السحر لها قصد التفريق بينها وبين زوجها، وقد حجزت لها اليوم عند دكتور العظام، حين لاحظت أنها أصبحت تمشي بصعوبة، والله تعبت وأنا امرأة عجوز لا قدرة لي على هذه المشاوير اليومية، فحسبي الله ونعم الوكيل على من وضع لها السحر".
حين انتهت الأم من سرد معاناة ابنتها، أيقنت بأن الفتاة لا تعاني السحر، بل تعاني الظلم والضغوط النفسية وكبت حريتها وتسيير حياتها كما يريد الآخرون لا كما تريد هي. هذه الفتاة تشعر بالغبن والقهر والانكسار الداخلي والعجز التام عن إدارة أمورها كما تريد وتشتهي، فهي تعيش عند أهل زوج يعايرونها بإنجاب البنات، وزوج مفروض عليها بغير إرادتها وقبولها، وأب يهددها بطردها وتسليم البنات لوالدهن إن جاءته غاضبة من زوجها، وطموح تم اغتياله، لذلك فضلت الهروب من الحياة وعدم القتال من أجل مصيرها!
أنا لا أنكر حقيقة السحر لكن يجب ألا نصنع منه شماعة تعلق فوقها خطايا تدخلات البشر وحقيقة عبثهم الظالم بحياة الآخرين!
ولعلي في مقال قادم أخبركم ماذا حدث لهذه الفتاة وكيف استعادت حياتها من جديد .. عسى أن تكون قصتها إلهاما لأشخاص ما زالوا ضحية لمشعوذين يستنزفون جيوبهم وعقولهم تحت اسم "أنت مسحور"!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي