منظماتنا تجرد نظام الحوافز من العدالة

اهتمت الإدارة المعاصرة بدوافع وحوافز العاملين ورضاهم الوظيفي وأولتها أهمية عالية، ولم يأت ذلك من فراغ، بل وفقا لتجارب وبحوث علم النفس الإداري والصناعي والسلوك التنظيمي. لذا تنظر الدراسات السلوكية والإدارية الحديثة إلى موضوع الدوافع والحوافز على أنها عملية أساسية تتكون من التفاعل بين كل من الحاجات والتوقعات والسلوك والأداء.
ومؤسساتنا عبارة عن ثقافات تنظيمية تتكون من مزيج من القياديين والموظفين والعاملين، وكل هؤلاء لديهم طموحات وأهداف متباينة يريدون تحقيقها، وللمنظمات كذلك طموحات وأهداف أيضا قد توافق وقد تعارض أهداف منسوبيها، فإذا أرادت المؤسسات أن تحصل على أقصى جهد يقدمه الأفراد فعليها أن تعطي كل مجموعة حقوقهم، وتسعى إلى تحقيق أهدافهم الشخصية، ولن يتأتى ذلك إلا بتصميم نظام فاعل للحوافز، وهذا لا يعني رفع ميزانيتها، بل الاستفادة من نماذج ونظريات الحوافز وفي مقدمتها نظرية العدالة. وسأستعرض بالتحليل والتقييم أبرز ملامح نظام الحوافز في منظماتنا ومقارنته بنتائج الأبحاث الإدارية والسلوكية.
تؤكد نتائج الدراسات أن الحوافز يجب أن ترتبط ارتباطا وثيقا ومباشرا برسالة وأهداف المنظمة. وقد بيّنا في مقال سابق أن أغلبية منظماتنا ليست لديها رسالة، ولو أن بعضها صاغت لها رسالة بطريقة بدائية ومبتذلة إرضاء لمعايير ضمان وتوكيد الجودة وإدارة الجودة الشاملة، وهذا يعني أن منظماتنا ليس لديها هوية وليس لديها خطط وليس لديها أهداف. يقول خبراء إدارة الأعمال: "إذا لم تعرف أين تتجه فسر في أي اتجاه". وهذا بالطبع ما يحدث، فبعض إداراتنا لا تدري أين تتجه فتسير بغير هدى. لذا يجب أن تعدّ رسالتها وتتفهمها جيدا، فبدون صياغة علمية وواقعية للرسالة لن تتمكن من ممارسة وظائفها الإدارية ومنها الحوافز.
توافر العدالة شرط أساسي لتفعيل نظام الحوافز، بحيث لا تتدخل فيها النوازع العاطفية ولا العلاقات الشخصية. يقول آدمز صاحب نظرية العدالة: "تفقد الحوافز مصداقيتها وفاعليتها عندما تخلو من العدالة"، ولهذا تفسد كثيرا من منظماتنا نظام الحوافز عندما تجرده من العدالة. فعلى سبيل المثال نرى خارج الدوام، اللجان مدفوعة الثمن، والمواقع القيادية، والدورات التدريبية حكرا على فئة تربطها قواسم مشتركة، حيث تمثل الحزبية والفئوية أعلى صورها. الموظفون الذين ليس لهم ولاية ولا يملكون مصادر دعم ولا يقدمون خدمات من تحت الطاولة تمر عليهم السنون تلو السنين وهم في أماكنهم، بينما جزء آخر لا يكاد ينهي فترته النظامية بيوم واحد حتى يصدر قرار ترقيته.
توصي الدراسات والأبحاث المنظمات بكل أشكالها وصورها الصناعية والتجارية والخدمية بالاهتمام بالحوافز المعنوية الإيجابية مثل سمعة المنظمة ومكانتها في المجتمع وتوفير الظروف المحيطة بالعمل كالخصوصية والضوضاء، ومكان العمل. فكلما كانت المنظمات ذات سمعة ذائعة يشعر العاملون بالفخر لانتمائهم إليها، وهذا يدفعهم نحو الولاء ويعتدون بوظائفهم، ما يرفع معنوياتهم فتزيد إنتاجيتهم. كبار موظفي ومهندسي شركة موتورولا على سبيل المثال (إحدى الشركات الرائدة في مجال الاتصالات) يتفاخرون بانتمائهم للشركة على حساب مؤهلاتهم وخبراتهم، لأن سمعة الشركة طغت على مؤهلاتهم العلمية. ولا أظن منظماتنا ستستفيد كثيرا من هذا الحافز، لأن منسوبيها لا يرحبون بعضويتهم وانتمائهم إليها، فهم يتفاخرون بدرجاتهم العلمية وجامعاتهم التي تخرجوا فيها على حساب مقر أعمالهم، لذا على منظماتنا تعويض السمعة بمزيد من الحوافز حتى تنجلي الغمة وتعود الثقة وتبنى صروح يتفاخر كل من ينتمي إليها.
أما توافر الظروف المحيطة بالعمل مثل مكان العمل والخصوصية فلك أن تتخيل معي الصورة التالية التي أصبحت أمرا مألوفا في بعض إداراتنا نراها يوميا بالغدو والآصال. بعض منظماتنا تكدس من ثلاثة إلى أربعة موظفين يؤدون أعمالا جوهرية وينجزون مهاما غاية في السرية تكدسهم في مكتب واحد يتقاسمون جهاز حاسب آلي واحدا، ومنهم من كان مستشارا في أجهزة الدولة، وتطالبهم باستقبال الطلبات خلال ساعات الدوام الرسمي والتفاعل مع الجمهور وحضور الاجتماعات التطوعية بطبيعة الحال، لأن الاجتماعات المدفوعة محرمة عليهم، فهي حكر على فئة دون غيرها.
لو قدر لك وزرت إحدى إداراتنا في بعض منظماتنا فلا تعجب أن ترى في مكان واحد وفي وقت واحد موظفا يتوسط مراجعيه لتوضيح بعض الأمور، وآخر يجتمع بزملائه لمناقشة موضوع استعصى حله، وثالث وجد الفرصة الذهبية مواتية لتصفح مواقع على شبكة الإنترنت، وفي مكان آخر من هذا المكتب البائس ترى السكرتير مغمورا بين كومة من الأوراق ينسخ خطابات وينظم جدول أعماله، كل ذلك في مكتب واحد في وقت واحد.
من هذا العرض ومن خلال علاقتي ببعض المنظمات الصناعية والخدمية في بلادنا نستطيع أن نستخلص القاعدة التالية "منظماتنا لا تعترف أبدا بشيء يسمى حوافز، بل إن هذه الكلمة تغيظها كثيرا وهي تحارب هذا العدو اللدود المدعو "حوافز" وتقمع كل ما يدفع الموظف إلى الإنجاز وزيادة الجهد".
لهذا أصبحت مؤسساتنا بيئة عمل جامدة، طاردة، كئيبة، خالية من الحياة والنشاط، لا رغبة في التميز، يتحاشى منسوبوها تحمل أدنى مسؤولية أو التفكير في الإبداع وبذل الجهد، خوفا على مستحقاتهم المالية والأدبية. عدم تبني نظام جيد للحوافز ولّد أنفسا بائسة، محبطة، فمؤسساتنا منظمات لا روح فيها ولا حياة، أشبه بالقفر ومرتعا للكسل والإحباط.. إنها بيئة تنظيمية تنام في ظلمة الوادي وتنمو من فوقها الأوهام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي