الاقتصاد الإسلامي وتطويره وفق المفاهيم الإيمانية
مواطن يملك مصنعا وأراضي ومصالح تجارية أخرى وتظهر عليه مظاهر الثراء كافة من جهة المنزل والسيارات والإنفاق إلا أنه لا يظهر عليه أي مظهر من مظاهر المعرفة التجارية أو الصناعية وعند مناقشته في المبادئ الاقتصادية ومبادئ الأسواق سواء سوق الأسهم أو السوق العقارية أو القطاع الاقتصادي الذي ينشط به تجاريا وصناعيا يكاد لا يفقه شيئاً.
وعندما سألت صديقا له: كيف له ذلك؟ قال هذا رجل يؤدي فروضه وبارٌ بوالديه وكريم ومُنفق ويتجنب الحرام رغم أن مظهره وملبسه لا يشي بذلك والله يرزقه من حيث لا يحتسب حيث يدله على أسباب الرزق كافة ويوفقه في كل ما يشتري أو يشارك به من تجارة أو صناعة أو عقار وييسر له موظفين أكفاء مخلصين، مضيفا أنه من أراد الرزق الواسع يسعى لمشاركته، وذكر لي قوله تعالى في الآيتين 2-3 في سورة الطلاق }وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا { .
مواطن آخر يتصدق ويحقق معاني التكافل الاجتماعي كافة رغم أنه في ضائقة مالية ومستقبله المالي غير واضح حيث تعاني أعماله بعض المشاكل التسويقية والمالية معاً وقلت له أليس الأجدر بك أن تحتفظ بهذه الأموال التي تتصدق بها لمواجهة ضائقتك أو تحتفظ بها لمواجهة متطلبات الحياة فيما لو استمرت مشاكل أعمالك وخسرت أموالك؟ فقال لي إن الصدقة التي أنفقها هي الوسيلة المثلى للخلاص من هذه المشاكل وإنه فعلها مراراً وتكراراً وإن الله وفقه للحلول المثلى وبارك له في أعماله موضحا أنه يتوكل على الله ويبذل الأسباب كافة بما فيها الأسباب غير المباشرة بتجارته وأعماله ومنها الصدقة المدرة للرزق وذكر لي قوله تعالى في سورة آل عمران في الآية 180 (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وما قاله رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - (ما نقص مال من صدقة بل تزده بل تزده بل تزده).
وتقول الروايات إنه في عصر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - جمعت الزكاة، وأراد أن يوزعها فلم يجد فقيرا واحدا في أنحاء الأمة، وكان عمر يحكم أمة تمتد حدودها من الصين شرقا إلى باريس غربا ومن حدود سيبيريا شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا ومع ذلك جمع الزكاة فلم يجد مسكينا واحدا يأخذها ذلك أن عمر بن عبد العزيز الملقب بالخليفة الراشد الخامس عمل بسياسة ترسيخ قيم الحق والعدل ودفع الظلم وفق التوجيهات والأحكام الربانية فاندفع أفراد المجتمع للعمل والإنتاج فكثر عدد المؤدِّين للزكاة، وانخفض عدد القابضين لها، وقد ثبت في مسند الإمام أحمد: أن الحبة من القمح كانت في عهد عمر بن عبد العزيز كرأس الثوم من بركة العدل والإنصاف وتطبيق أحكام الشرع الأخلاقية قبل الجزائية.
والقصص والأمثلة والروايات والوقائع الكثيرة إضافة للنصوص المقدسة من آيات قرآنية وأحاديث نبوية تثبت أن المفاهيم الإيمانية كالإيمان بالقضاء والقدر وأن الله هو الرزاق وأن كثيرا من الأعمال غير ذات الصلة المباشرة بالرزق مدرة له كالبر بالوالدين والصدقة ورعاية الأيتام والعجزة والتجاوز عن الضعفاء من أصحاب الدين والاستغفار والدعاء وذكر الله والصلاة على الرسول، أقول تثبت أن المفاهيم الإيمانية ذات صلة مباشرة بالاقتصاد الإسلامي ومبادئه وقيمه ونظرياته وأنظمته إضافة للمبادئ الاقتصادية المتعارف عليها مثل العرض والطلب والتسعير والتعامل مع الموارد والإنتاج والتصدير والتسعير والتمويل والتعاملات المالية، فمقتضى الإيمان يتطلب الإيمان بالتوكل على الله بالأخذ بالأسباب المادية والأسباب المعنوية معاً وطلب التوفيق والسداد من الله سبحانه وتعالى.
نعم فما فهمته من منطلقات الاقتصاد الإسلامي أن الخالق الرازق سبحانه وتعالى لكي يرزقنا الرزق الوفير والحياة الهانئة الطيبة الكريمة يطالبنا بالعمل الصحيح وفق متطلبات الحياة المادية ''إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه'' وأن يلازم هذا العمل المتقن قدر الإمكان الالتزام الكامل بقيم الإسلام الأخلاقية ومفاهيمها السليمة كالعدل والمساواة والإنصاف والصدقة والاستغفار وبر الوالدين فالأسباب يبذلها البشر والنتائج والتوفيق من رب العالمين سبحانه وتعالى.
بطبيعة الحال هذه المنطلقات تختلف تماماً عن منطلقات الاقتصاد الرأسمالي المادي البحت رغم أن الرأسمالية طورت الكثير من المفاهيم الأخلاقية بمرور الزمن بعد أن رأت فيه حلاً لكثير من مشاكلها والعقبات التي واجهتها كمفهوم الشفافية والعدالة والنزاهة والمساءلة والإنصاف ومكافحة الفساد ومفهوم خدمة الشركات للمجتمع ومفهوم منع الاحتكار إلى غير ذلك من المفاهيم، ورغم إيماننا كمسلمين بهذه المنطلقات إلا أننا ابتعدنا عنها بشكل كبير وأحضرنا المنطلقات والمفاهيم الرأسمالية دون مفاهيمها الأخلاقية التي طورتها بمرور الزمن فأصبحنا في واقع اقتصادي هلامي الشكل غير محدد المنطلقات والثوابت والآليات والمرجعيات، وهو ما انعكس على ثقافتنا في التعاطي مع كثير من القضايا ذات البعد الإنساني كالتعاطي مع قضية الفقر والبطالة والهجرة والتجنيس والتعامل الإنساني التي سبقنا الغرب الرأسمالي فيها بسنوات ضوئية ومع الأسف الشديد.
ختاما.. أتساءل كغيري هل من تحول فكري لدى المبشرين والمتبنين للمصرفية الإسلامية على سبيل المثال لطرح فكر اقتصادي إسلامي كامل استنادا إلى المنطلقات الإيمانية لدى أمة المليار ونصف مليار مسلم ومأسسة هذا الفكر وتنظيمه لنتحول أفراداً ومؤسسات لمفاهيم اقتصادية ذات بعد إيماني ترضي الرازق مالك خزائن السماوات والأرض سبحانه وتعالى ليمنحنا أفضل النتائج الاقتصادية ويبارك لنا في حياتنا في الدنيا ويرحمنا برحمته الواسعة في الآخرة؟ أتطلع كغيري من أمة محمد لذلك.