لماذا الأغلبية لا تُسعر السيولة؟

المراقب لتصرف الناس عامة في مجتمعنا المالي والاستثماري يجد أن الأغلبية لا تُسعر السيولة حيث تجد هؤلاء لا يفرقون بين استثمار عالي السيولة واستثمار منخفض السيولة وما بينهما من تدرج يتطلب ميزانا دقيقا سرعان ما يغالط المستثمر والمضارب الحريص وغير الحريص. تُعرف السيولة على أنها القدرة على تحويل استثمار ما إلى نقد بسرعة ودون خسارة في رأس المال. الاستثمار في المملكة وخاصة بعد انفجار فقاعة الأسهم في 2006 اتجه للعقار وكان العائد مجزيا جداً، حيث إن الأغلبية فيه دون دخل بل رهان على الاستمرار في ارتفاع الأسعار. إلا أن هناك خللا بين العائد المتوقع وبين درجة السيولة في الأصول. لا نريد هنا الدخول في توقعات عن سوق العقار ولكن الرابط بين الارتفاع المستمر والسيولة مهم في أكثر من زاوية.
ارتفاع الأسعار يزيد السيولة في البداية ولكن بعد أن يصل الارتفاع إلى مستوى تحولي في المنحنى يصبح الكثير غير قادر على الشراء فتبدأ السيولة في النقصان. كما أن الارتفاع الكبير يُركز الأموال عند من ليس له حاجة (ليس للاستثمار دور في معدل مصروفاته) وبالتالي تقل حساسيته لتسعير السيولة، ويزداد رهانه على الحفاظ على هذه الأصول أسوة بالماضي القريب وحتى البعيد، وبالتالي تقل حاجته للبيع (تقليل اختبار السيولة) والسيولة، ولكن كل هذا يدخل في آلية حركة السيولة في العقار ولكن للسيولة أيضاً بعدا آخر قد يكون أهم للأغلبية من الناس. لا تتوافر أرقام دقيقة ولكننا نعرف أن حجم المحفظة العقارية أضعاف حجم محفظة الأسهم التي تصل إلى نحو 1.5 تريليون ريال تقريبا، ولكن حجم التداول على الأسهم أكبر بمسافة عن حجم التداول على العقار (لا نقصد المنازل التي غالبا ليست للاستثمار). لذلك فإن التخارج والسيولة لا بد أن يكونا أصعب نسبياً وعلى المطلق في العقار منها في الأسهم.
أدبيات التخطيط المالي تأتينا من الدول المتقدمة وهذه في غالبها لا تتناسب مع تصرفات الأغلبية لدينا، ولذلك قد تكون نبراسا للمستقبل ولكنها غير عملية اليوم. فمثلا ينصح المخططون الماليون بأن يكون لديك سيولة كافية لمصروفات ستة أشهر. السبب الرئيس أنه في الغالب يتطلب نحو ستة أشهر للحصول على وظيفة أخرى، وهذا لا يتناسب مع أغلبية تعمل للحكومة وهرم مالي معكوس، حيث إن الناس في أغلب هذه الدول يعملون في مقتبل أعمارهم على توفير المال لصرفه تدريجيا في حال التقاعد، وهذا لا ينطبق على أوضاعنا لأسباب لا نريد الدخول فيها الآن. لعل مطمعنا من التخطيط المالي أن المستثمر يعي تسعير السيولة وخاصة في العقار بدرجة أكثر دقة. تكييف وقياس هذا التسعير مرهونان بالتجربة والموضوعية في التحليل، ففي آخر نزول حاد للعقار أسباب دورية (عوائد النفط والحركة المالية والاقتصادية) وأخرى هيكلية (عدم قدرة العامة على مواصلة الشراء وإمكانية تغيير الأنظمة الحكومية).
لا أستطيع أن أعطي أرقاما نظرا لصعوبة استقراء الدوري وقياس الهيكلي ولكن أرى أن أهمية تسعير السيولة عامل مفقود حان الوقت للأخذ به جدياً. محاولة التخرج الجمعي ترفع سعر السيولة ارتفاعا مؤثرا أعلى من مستواها السائد في الأوقات العادية. الإشكالية في معرفة ما هو مقبول ومريح وما هو غير مقبول وغير مريح من مستوى السيولة، وهذه تختلف حتماً حسب نوعية المستثمر وأساليب استثماراته. طبيعة الاقتصاد الريعي تجعل من الاختلاف بين هذا وذاك درجات بسيطة ولكن مكمن الخطر أن النتائج كبيرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي