القلة.. والكثرة
القلة والكثرة أكثر من الوصف العددي الظاهر أن هذا قليل وذاك كثير، هنا - مبدأ جديد - للقياس! فيما يعني ما هو أشمل وأعمق وأوسع، يتجه للدلالة على كل ما يتصل بك، وبكل شيء حولك، حتى أعماقك وذاتك، هو يستغرق العالم ويدور حول البشرية في وجودها الكوني الواسع:
- أن يكون هناك كثير من الثروة، ويكون في مقابلها قليل جدا من المالكين لها، أن يكون هناك كثرة من المال، وكثرة من الذهب، وقلة من المنتفعين بهما، وكثرة من الطعام، وقلة من الآكلين له، وكثرة من الفقراء حوله! وكثرة من الموارد الطبيعية في معظم دول العالم، وقليل من الانتفاع بها!
- أن تكون هناك كثرة من الوزراء، وقليل من التغيير! أن تكون هناك كثرة من خبراء الاقتصاد وعباقرة التخطيط في إدارة المال والموارد، ويكون هناك قليل من العصمة من الانزلاق المروع في هاوية الفقر والعوز والإفلاس في معظم دول العالم وفي أكثرها!
- أن تكون هناك كثرة هائلة من الوعاظ .. وقليل جدا من - الوعظ - القادر على تغير سلوك الإنسان، أو الالتزام بالفضيلة أو العفة أو طهارة اليد. أن يكون هناك الكثير من النسخ البشرية الحافظة للقرآن، وقليل من تأثيره في الوعي والحياة والمجتمع والسلوك، أن يكون هناك كثير من رجال الدين، والقليل من الذين يخافون الله في السر، وفي بواطن الأمور وعند غفلة الرقيب أو عند الركون إلى حسن الظن بظاهر التدين، وظاهر الصلاح.
- أن يكون هناك كثير من الكُتاب وكثير من الكتب، وكثير من طرق التعليم، وكثير من نقل المعرفة، وكثير مما يُقال، وكثير مما يسمع ويقابله قليل من الوعي، وقليل من العلم المتبصر العميق، وقليل من الحكمة البيضاء المتعالية، وقليل من المعرفة الهادية للخير، والقائدة للصلاح، والقابضة على سبل رغد المجموع، والحارثة سنابل وقمحا.
- أن يكون هناك كثير من التنظير والتعميم، والحكم على كل شيء، وكثير من الحكم على كل أحد بصفات النقص فيه، وصفات الضعف منه. وصفات العيب البادي، إن لم يتوار ويغيب بستر! ويقابله .. قليل من المبادرة الحية، وقليل من نطق الأفعال، وقليل من الصالحات الباقيات، وقليل من حكمة الصمت، أو صمت الحكمة حتى تنضج، وتتكون، وتتكامل! كثرة من اللفظ حد الضجيج، وقلة العمل كسكون القبور! وتساوي البعد بين الحاضر والماضي في كل صفات العيب والتخلف والعجز.
- أن يكون هناك كثرة في أرقام الميزانيات للدول، ويكون في مقابلها قليل من التغيير في عدد أرغفة خبز الفقراء، وقليل من التغيير في تحسن حياة الناس، وقليل من التغيير في معالجة مشاكلهم المزمنة، ورفع سبب الألم، والوجع، واليأس والإحباط .. أن يكون هناك كثير من الإنفاق .. وقليل من النتائج! كثير من العطاء والقليل من الانضباط في المحافظة عليه، وحراسته، ورعاية وصوله إلى مستحقيه، وأهله.
- أن يكون هناك كثير من التعليم، والقليل من التقدم، في العالم العربي والإسلامي، وكثير من المؤلفين، وقليل من الفكر الجديد القادر على تقديم رؤية شاملة لما الناس تُعانيه، وتكابده، وتموت بسببه على كل رصيف، وفي زاوية كل شارع، وعلى سرير أبيض يشبه رخامة التشريح، إن تكاثر الطب وقل الأطباء، وكثر العلم، وقل الورع، والإخلاص، والإنسانية فيهم.
- أن يكثر ويتكاثر عدد المسلمين، ويقابله قلة الإسلام الفكر، القائم على الرحمة، والتسامح، ومحبة عباد الله، ومحبة الخير المطلق لهم، ومحبة أن يكون المسلم هو الناقل لهبات الله، وهو السابق بالصالحات، وبالمغفرة، وبالخيرات. كثرة المصلين، مع قلة - الصلاة الحق - وكثرة قراء القرآن مع قلة الخشوع في القلب. وقلة البصيرة في العقل.
هذه هي الكثرة .. وتلك القلة! في كل شيء، نحتاج أن نعود إلى قول الله المتكرر ''وقليل ما هم'' و''وقليل من عبادي الشكور'' و''وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين''، وخبر النبوة لنا ''كثرة كغثاء السيل''. لا يسقي ولا يروي، الوقت ضيق دائما، والعمر قصير باستمرار، والحياة لا تُكرر نفسها مرتين، والاقتصاد الجيد لا يبقى دائما كذلك تلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.
لذا تأتي ضرورة التركيز على ''النتائج'' والبحث عن قصص النجاح. ومحاسبة الفشل وأن نردم جحور الأفاعي التي تقتات على غفلة ضحاياها، وأن نتربص بالفئران التي تفسد محصول الذرة. وأن نتيقن أن يقين القلب بالعرض على الله قليل، وأن مخافته أفلت، وأن الإخلاص في كل شيء عزيز ونادر، ويعز حتى على الأم التي حملت الإنسان وهناً على وهن، حتى تمثل رجلا سويا!
لست سعيدا بكثرة الميزانية بقدر سعادتي الغامرة برغيف خبز واحد، يناله عاجز عنه، أو مكابد أجرة سكن على ضعف، نكفيه، أو يتيما نكفل معاشه، وفقيرة نصون عفتها بسد الفاقة.