مبادئ الدبلوماسية تصلُح لحل قضايا النزاعات التنظيمية
تطرقت خلال الأسابيع الماضية إلى موضوع النزاعات داخل المنظمات ومدى تأثيرها في سير العمل، فذكرت أنواعها ومسبباتها الرئيسة وبقيت لنا آليات معالجتها وطريقة إدارتها.
اختلف المنظرون حول طرائق معالجة النزاعات داخل المنظمات إلا أنهم شبه مجمعين على طريقة واحدة وهي عقد اللقاءات المباشرة مع الأطراف المتنازعة رغم أن البعض يرى أن اللقاءات المباشرة غير مجدية حتى تتم التهدئة بين الطرفين، وهذا غير صحيح، فإذا كان الوسيط على قدر من الحنكة والخبرة لحل النزاعات، فإن الأمر لا يحتاج إلى ذلك، بل إلى دفع عجلة الوفاق قدما، وهذا لن يتأتى إلا بإنهاء الخلافات الهامشية قبل المشكلة الجوهرية، كما سنرى بعد قليل.
وطريقة عقد اللقاءات المباشرة ليست حكرا على حل النزاعات داخل المنظمات، بل هي طريقة مشتركة لحل أي خلاف على المستوى العائلي أو الاجتماعي أو السياسي أو الدبلوماسي، فعقد اللقاءات المباشرة مع الأطراف المتنازعة له فائدة عظمى على إنهاء الخلاف، لأن المواجهة توضح الصورة وتزيل اللبس الذي قد يكون سبب الخلاف الأصلي، فقد يكون هناك بعض وجهات النظر نقلت إلى الطرف الآخر وأساء فهمها.
ورغم أن أغلبية الأدبيات اتفقت تقريبا على أهمية اللقاءات المباشرة، إلا أن هناك اختلافا في آلية التطبيق، فالبعض يرى أهمية إثارة مشكلة الخلاف الجوهرية في البداية، والبعض الآخر يرى إهمالها بالكلية وعدم التطرق إليها، وهناك صنف ثالث يرى إثارتها في نهاية اللقاء، وأنا أتفق مع هذا الصنف الأخير، وسأبين وجهة نظري بشيء من التفصيل مدعمة ببعض التجارب العملية. عند عقد الاجتماعات واللقاءات مع الأطراف المتنازعة ينبغي وقبل كل شيء التركيز على النقاط التي تدفع إلى تحقيق تقدم في حل النزاع مهما كانت هذه النقاط هامشية، فمن أسباب فشل حل الخلافات بين الأطراف المتنازعة أن الوسيط أو القائم بحل النزاع يركز على النقطة الجوهرية والسبب الرئيس للخلاف بين الطرفين دون أن يستفيد من بعض القضايا الجانبية التي تفيد في تقريب وجهات النظر وتشعر الجميع بانفراج الأزمة. فإذا تم حصر اللقاء على القضية الجوهرية دون غيرها، فهذا يعني أن هناك طرفا فائزا وآخر خاسرا، وعندما ينظر إلى الأمر بهذا الشكل فاحتمالية حل الخلاف غير وارد، لكن عندما يتم التركيز على قضايا عدة مجتمعة من ضمنها القضية الأساسية، فإن الجميع سيشعرون بأنهم فائزون، وهذا هو المبتغى، لأن كلا الطرفين يريد أن يصل إلى نتيجة ويحقق مكاسب، وهذه القضايا رغم بساطتها إلا أن لها أثرا بالغا في حل الخلاف الجوهري، وقد يتنازل أحد الطرفين عن بعض الأمور المهمة لأن حل القضايا الهامشية تشعرهم بأنهم على مقربة من الاتفاق.
من الطبيعي للمسؤول عن حل النزاعات أن تكون لديه معلومات كاملة عن لب المشكلة والأمور الأخرى المتعلقة، إلا أن هذا لا يعني ألبتة التركيز على المشكلة الجوهرية دون غيرها من الأمور التي تدفع الوصول إلى حل حتى تتضح هذه النقطة بشكل جيد. أريد هنا أن أذكر تجربة لحل النزاعات قام بها فريق أمريكي استخدم الآلية نفسها التي نتحدث عنها حيث قام بإغفال القضية الجوهرية وركز على القضايا الفرعية من أجل إظهار إمكانية التوصل إلى حل. ورغم أن هذه التجربة استخدمت في مجال الدبلوماسية والعلاقات الدولية إلا أنه يمكن الإفادة منها في مجال حل الخلافات داخل المنظمات وذكرتها من قبل في مقال سابق ولا مانع من تكرارها لأن المكان يناسبها.
قام الفريق الأمريكي بقيادة روجر داوسون عندما كُلف بحل النزاع بين مصر وإسرائيل عام 1973 بالذهاب إلى إسرائيل وأبلغ الساسة الإسرائيليين بأنه يجب عليهم أن يقتربوا من المصريين لأنهم إن لم يفعلوا فستقوم الحرب العالمية الثالثة في المنطقة. وقد كان رد الجانب الإسرائيلي عنيفا، وهنا شعر الفريق الأمريكي بأنه وصل إلى طريق مسدود، حيث اشترط الجانب الإسرائيلي للتقارب مع المصريين ألا يتم التطرق لصحراء سيناء، وقالوا ''لقد انتزعنا هذه الأرض في حرب 1967 وفيها تكمن آبار النفط ولن ننسحب أبدا مهما كلفنا الأمر''، هذا هو رد الجانب الإسرائيلي.
إلا أن داوسون ومعاونيه لجأوا إلى سياسة الإهمال، أي إهمال المواقف الملتهبة والقضية الجوهرية جانبا وتأخير مناقشتها إلى نهاية اللقاء لأنهم يعلمون أن مصر لن تقبل بأي اتفاق لا يشمل سيناء. قال الفريق الأمريكي المعني بحل الخلاف للجانب الإسرائيلي ما يلي ''نحن نتفهم مشاعركم حيال سيناء التي فيها آبار النفط ونتفهم أنكم استوليتم عليها في حرب 1967، لكن دعونا نضع هذه القضية جانبا في الوقت الحالي ونطرق بعض القضايا الأخرى''. وبالفعل تم التطرق إلى قضايا أخرى أقل أهمية لدفع عجلة التفاوض قدما حتى شعر الجانب الإسرائيلي بإمكانية التوصل إلى حل وتحقيق نتائج وعندما بلغت نشوة النصر المفتعلة بالجانب الإسرائيلي ذروتها أثيرت قضية سيناء وهنا حدث شيء مذهل، فقد كان الجانب الإسرائيلي أكثر ليونة منه في بداية اللقاء حتى إنهم قرروا الانسحاب من سيناء بالكامل دون أن يطلب منهم ذلك رغم ادعائهم في بداية الأمر أن هذا هو آخر شيء يمكنهم القيام به.
لذا نستطيع أن نختم فنقول إن آلية إهمال القضية الجوهرية والنقاط الملتهبة جانبا عند عقد اللقاء مع الأطراف المتنازعة تعد أهم خطوة لحل النزاعات بين الأطراف ورغم أن التجربة السابقة سياسية وليست تنظيمية إلا أن آليات حل النزاعات يمكن استخدامها في أي بيئة تناسبها.
ولا نريد أن نحصر آليات حل النزاعات في نقطة ''إهمال القضية الجوهرية'' فهناك آليات أخرى مثل الوصول إلى حل وسط، أو إشعار العاملين بأهميتهم، أو إحالة الموضوع إلى لجنة محايدة لحفظ ماء الوجه لكلا الطرفين، وغيرها كثير، إلا أن المساحة المقررة للمقال جعلتني أكتفي بهذا.