الأسباب الجوهرية للنزاعات داخل المنظمات
تظهر النزاعات داخل المنظمات بين أطراف عدة، وهي وإن كان لها أثر في سير المنظمات ونتائج الأعمال والمناخ التنظيمي برمته إلا أنها نتيجة طبيعية، لأنها تنشأ نتيجة تمازج سلوكيات البشر بلوائح التنظيم، ولهذا لا تخلو أي منظمة من نزاع، فهو موجود في جميع أنواع المنظمات مهما كان وضعها القانوني أو حجمها، لكن بنسب متفاوتة. ويظل النزاع في حدوده الطبيعية إذا كان في حدود السيطرة وتمت إدارته بنجاح، وإذا لم يؤدِ إلى تقسيم المنظمة وزيادة الفجوة بين التنظيمات الرسمية وغير الرسمية وإذا لم يؤثر في تحقيق المنظمة أهدافها أو جنوحها عن الوفاء بالتزاماتها أو انحرافها عن جوهر رسالتها.
واتفقت أدبيات السلوك التنظيمي على وجود ثلاثة أنواع من النزاعات تؤثر في سير المنظمات، هي: النزاع داخل الأفراد أنفسهم، والنزاع بين الأفراد فيما بينهم، والنزاع بين الأقسام والإدارات، وأريد أن أضيف نوعا رابعا وهو النزاع بين القيادات. ورغم أن هذا الأخير يمكن أن يصنف ضمن النوع الثاني (النزاع بين الأفراد)، إلا أنني أرى أنه صنف مستقل بذاته نتيجة أهميته وكثرة انتشاره، فهو من أكثر الأنواع شيوعا، كما أن تأثيره يعادل تأثير الأنواع الثلاثة مجتمعة. حتى نفرق بين هذه الأنواع سنلقي الضوء على كل صنف ونتعرف على أسباب حدوثه وقوة تأثيره في سيرة العمل في المنظمات.
يرى ريتشارد ريو في كتابه ''نظرية الإدارة''، الذي ترجمه إلى العربية ناصر العديلي، أن النزاع داخل الفرد نفسه يتمثل في تناقضات الفرد مع أهدافه أو تناقضاته مع الأدوار التي يقوم بها داخل العمل الذي يؤديه، وقد تكون للإحباطات والمثبطات التي يواجهها الفرد في حياته وعمله آثار سلبية في حدوث هذا النوع من النزاع الذاتي، حيث يكون عائقا بين الفرد وتحقيق أهدافه، فتنتج عن ذلك الإحباط ردود فعل دفاعية يطلق عليها علماء السلوك ''الحيل اللا شعورية'' مثل: التبرير والانسحاب والاستمرار والثبات أو قبول حل وسط أو بديل آخر.
أما النزاع بين الأفراد داخل المنظمات فيأخذ أشكالا عدة، فقد يحدث بين فرد وآخر أو بين فرد ومجموعة أفراد أو بين مجموعة أفراد يحملون هدفا أو فكرا مشتركا وبين مجموعة أخرى تحمل هدفا مناقضا. ويحدث هذا نتيجة اختلاف حاجات الأفراد أو المجموعات واختلاف أدوارهم التي يقومون بها أو نتيجة اختلاف في وجهات النظر فيما بينهم أو اختلاف أنماط شخصياتهم واتجاهاتهم ودوافعهم. وقد يكون النزاع بين فئات مهنية كالنزاع بين الاستشاريين أو بين التنفيذيين أو بين الموظفين فيما بينهم. وينبثق من هذا النوع النزاع بين القيادات كأفراد وليس كمجموعات، وتم تصنيفه كنوع مستقل رغم أنه يعد نوعا من أنواع النزاع بين الأفراد بسبب أهميته، حيث يؤدي تفاقم هذا النوع من النزاع إلى تجييش الموظفين لنزاعات فردية أو أهواء شخصية تخدم أفرادا بعينهم (القيادات) ولا تفيد أهداف المنظمة.
أما النوع الثالث فهو النزاع بين الأقسام والإدارات، وهذا ما يطلق عليه النزاع التنظيمي أو النزاع الوظيفي، لأنه يحدث بين إدارات في مستوى إداري واحد. ويأخذ هذا النوع من النزاع شكل نزاع مهني - نتيجة المبالغة في الولاء الوظيفي - أكثر من كونه نزاعا شخصيا أو صراعا ذاتيا. ويتجلى هذا النوع من النزاع داخل الإدارات والأقسام والوحدات أو داخل جماعات العمل مثل النزاع بين إدارات بينها علاقات ووظائف مشتركة مثل إدارة العمليات (الإنتاج) وإدارة التسويق أو بين إدارة العمليات والمخازن أو بين المحاسبة والإدارة المالية.
وأيا كان النوع فإن هناك أسبابا مشتركة وراء ظهور مثل هذه النزاعات داخل المنظمات ومن الصعب مناقشة كل هذه الأسباب لتداخلها وصعوبة الفصل فيما بينها، لذا سنناقش أبرز الأسباب. يرى كل من فليمان وأرنولد أن أهم أسباب النزاع داخل المنظمات يرجع لسببين رئيسين، الأول يتمثل في عدم تنسيق العمل بين الجماعات والأفراد، والسبب الآخر سوء أنظمة الرقابة، فعدم التنسيق بين المهام وعدم معرفة كل موظف وقائد وفرد داخل المنظمة بمهام عمله يعد السبب الجوهري للنزاعات داخل المنظمات، وهذا يقودنا إلى أهمية التوصيف الوظيفي، فإذا أرادت الشركات والمنظمات إخماد فتيل النزاعات عليها أن تبذل المزيد من الجهد في توصيف وظائفها وعلاقة هذه الوظائف ببعضها وتضع خطوطا واضحة للسلطات والمسؤوليات وتحديد النطاق الإشرافي المناسب للوظائف القيادية، ولهذا يمكن أن نقول إن السبب الجوهري للنزاعات داخل المنظمات سبب تنظيمي بالدرجة الأولى، فإذا اتقنت وظيفة التنظيم فإن خلو المنظمة من النزاعات أمر ممكن.
أما السبب الجوهري الآخر فهو سوء استخدام أدوات الرقابة وعدم عدالتها، ولا نقصد هنا فقط الرقابة بمعناها التقليدي، بل نقصد أدوات وأساليب الرقابة العلمية مثل العدالة في توزيع المواد، وإعداد الميزانيات، والموارد البشرية والفنية والأجهزة والمعدات والتجهيزات الفنية. فعدم العدالة في توزيع الموارد بين الأقسام يقود حتما إلى نزاعات وخلافات تنظيمية. كما أن نوعية الرقابة لها أثر في زيادة النزاعات، خصوصا الرقابة اللا أخلاقية ومن أبرزها التنصت الذي يهدف إلى معرفة توجهات الموظفين وماذا يقولون وماذا يفعلون، فمثل هذا النوع يقود إلى انتشار الشائعات وسوء العلاقات وتعظيم الانحرافات ويؤدي في نهاية المطاف إلى نشوء النزاعات.
هذان هما السببان الرئيسان لتفشي النزاعات بين الأفراد والإدارات داخل المنظمات، وهناك المزيد يمكن الرجوع إليه في أدبيات السلوك التنظيمي والإدارة والأعمال ومن أبرزها كتاب ''إدارة السلوك التنظيمي'' لمؤلفه ناصر العديلي، وهو من الكتب العربية القيمة، كما أن العديلي من الأساتذة الأفذاذ في هذا المجال وله مؤلفات في مجال الإدارة والسلوك التنظيمي.