هل يستمر الهدر للثروة بسبب الغش التجاري؟
إن الدراسات الميدانية والمكتبية التحليلية سواء أجرتها الجهة نفسها أم عدة جهات اشتركت فيها أو قامت بها إحدى الجامعات أو مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، لا بد أن تضع أمام المسؤولين المشكلة والحلول. فإذا ما كانت الحلول تعالج مشكلات مختلفة في الوقت نفسه، فهي بهذه الحالة متكاملة وتتعامل مع الأزمان ومختلف الظروف بمرونة كبيرة. أما إذا كانت غير ذلك فهنا ما يجعلنا نراجع الحسابات والتكاليف لئلا يتحمل الاقتصاد دفع فاتورة قطاع أو اثنين جراء أخطاء واضحة.
إن ما يقلق عند القيام ببعض الحسابات والتحاليل هو أن كثيرا من المواقع الخاصة بالجهات الخدمية ما زالت تنشر بيانات وإحصاءات تعود لأ كثر من 10-12 عاما مضت. بل إن كثيرا من اللوائح والضوابط في حاجة إلى تحديث لعدم مسايرتها للتطور الذي وصلنا إليه في كل القطاعات. فمثلا الكميات تضاعفت والنوعيات تغيرت والأساليب تحدثت وتعددت، مما يعني أن السياسات والإجراءات لا بد أن تتوافق مع هذا التغيير. من ناحية أخرى، فبعد إنشاء اللجان والهيئات وتوزيع المهام بين الجهات وترسيم الأنظمة والضوابط، لم يعد مبررا تأجيل النظر في تشديد الاشتراطات والعقوبات بالنسبة للغش التجاري وبالذات للمواد الغذائية والصحية. وسواء كان ذلك بالتحديث أو الإضافة أو التغيير الجذري، لا بد أن تطول الموضوع تعديلات جذرية لئلا تتطور نتائج المخالفات إلى مشاكل تجارية وأخرى صحية تضخم الفواتير العلاجية وترهق الاقتصاد الوطني بشكل مباشر وغير مباشر. لذلك إذا ما أردنا أن يرتقي المجتمع بثقافته في التعامل مع متغيرات الحياة، حري بنا ألا نجعله بين فكي كماشة أنماط الحياة السلبية ونوعية الحلول غير المتوافقة مع حجم المشكلة. وباستخدام أرقام حديثة توضح حجم العلاقة بين عوامل التأثير يمكن وضع تصور نحاكي فيه رياضيا مستقبل تطبيق هذا الحل أو ذاك.
تحت عنوان ''الغش التجاري'' فمن خلال إحصائيات البرامج الرقابية والجولات التفتيشية لمتابعة كل ما يقع تحت هذا العنوان يمكن استنباط الكثير من الملاحظات والأسئلة التي قلما نجد لها أجوبة شافية أو منشورة بأسلوب واقعي، ويمكن لنا أن نعلق بطريقة علمية تساعد المسؤولين على التعامل مع الخلل بطريقة ناجعة. كما يمكن أن نضع أنفسنا والمجتمع عموما أمام مسؤولية القيام بالواجبات كعدم التستر أو التبليغ المباشر أو الوقوف أمام كل متطاول. فلو أننا نستطيع تحديد ترتيب المحافظات والمناطق في حجم مشاكل الغش التجاري غذائيا وصناعيا وإلكترونيا وغير ذلك. ونستطيع ربط نسبة ما يتم اكتشافه إلى تعداد السكان بكل منطقة أو محافظة وعدد السجلات التجارية في كل مجال، وكشفنا مراوغة التاجر الذي يربط بين الأسعار والغش التجاري، وتمكنا من تحديد تكرار المخالفة من المحل أو المنشأة أو الفرد نفسه مواطنا كان أم وافدا ومن ثم تقدير المخالفة بناء على أسس سليمة مقدرة في هذا الوقت، وتم تحديث الاشتراطات الصحية وتغليظها أو تخفيفها والتغاضي عن بعضها لأنهما شأنان متناقضان، فسنكشف مراوغات التاجر مهما تنوعت، ولجعلنا كل تاجر يعيد حساباته قبل ارتكاب أي خطأ في حق نفسه أو من حوله. وبالتمحيص في المشكلة يمكن أن نضع كيفية القيام بالحملات التوعوية أو التثقيفية سواء صحيا أو تجاريا أو أخلاقيا. وسيتم وضع حد لأي تجاوزات لاحقة.
واقع الجولات يقودنا للسؤال: لماذا يستمر مسلسل ارتكاب الأخطاء والمخالفات التجارية إذا كانت الحملات منتظمة ومستمرة ولا هوادة في تطبيق الأنظمة؟ ما يدعو لقول ذلك هو أنه خلال عام واحد (من عام 33-34هـ) في محافظة واحدة ارتفع عدد المخالفات المضبوطة من 14886 مخالفة إلى 18597 مخالفة. مثل هذا الرقم تكرر في محافظات أخرى مما استدعى التساؤل: هل لزيادة عدد السجلات التجارية علاقة؟ لأن الزيادة هنا بنسبة غير معقولة بل إنها من المفترض أن تسجل انخفاضا بالنسبة ذاتها، فهل بعد إصدار القرارات وأنظمة الضبط واللوائح التنفيذية ونشرها نقر بعدم القدرة على كبح جماح الغش التجاري في النوعية والكمية على مستوى المحافظة أو المنطقة أو المملكة؟ علينا الآن تحديد ما إذا كانت الحملات التفتيشية بهذه النموذجية قد أدت دورها فتراجعت النتائج السلبية عبر السنوات الماضية (خمس أو عشر سنوات) بنسبة كبيرة. هذا يعني أن الدراسات الميدانية في حاجة إلى التعامل مع الأرقام بصورة أعمق.
المعضلة الآن هي إذا كان الوضع الصحي لأفراد المجتمع المصابين بالأمراض المزمنة قد زاد تكلفة، وإذا كان انخفاض نسبة هطول الأمطار أصلا مكلفا، كما هو التصحر مكلف، فلماذا ندع للغش التجاري مجالا لتكليفنا أكثر من 40 مليار ريال سنويا وقد أصدرنا فيه الأنظمة والضوابط التي تقوم بتطبيقها جهات مختصة لها باع طويل في استخدام كل الوسائل للتنفيذ حسب الأصول؟ ليتنا نخطط لانحسار الغش التجاري بأن يستفيد التاجر بالتبرع بالمواد أو السلع القابلة للتلف أو الفساد قبل تلفها بفترة فيكسب أجرا ويتفادى غرامة قد تصبح شطبا للسجل. وإذا ما أراد العكس فلابد أن نعكس القيمة الفعلية للجولات التفتيشية وتنفيذ العقوبات بشكل صارم ومواكب لأهمية الحدث لأنه من المؤكد أننا سنقلص بذلك الهدر المالي الذي تبتلعه محارق ومكبات النفايات سنويا من دون مبرر.