أيكم يكفل مريم..؟

ربما كان السؤال في حضرة الرهبان- الرغبة- الملحة في الكفالة منهم جميعا! ولكن الله يصطفي الأفضل؟! ليجعل منه وحده ''العطاء'' والبذل, كلهم يريد أن يعطي ويكفل, إلا أن الذي يحققه هو شخص واحد .. ذاك هو دائما الأكثر طهرا, والأكثر نبلا, والأكثر إخلاصا في القصد, وفي الغاية .. وفي البعد عن الذات .. وغنائمها من العطية والهبة والبذل.
كم من مريم طاهرة في الجوار؟ والصمت يمتد فينا.. ولا من مجيب.. أنا, هذه - الأنا - التي لم يعد لها دلالة غير الطلب, والقبض، والأثرة، وقلة الرحمة، بكل شيء.. وبكل أحد، أيا كان هذا الأحد، ما أكثر ''مريم'' في جيراننا وحوارينا وأرحامنا وربما أقرب.. وأقرب كثيرا.. إخواننا وأخواتنا وأمهاتنا طاهرات اللبن!
على مسافة تبعدك عن موت ضميرك، وموت الإنسان الطاهر فيك، وموت نبلك, وطهر الأصالة في عروقك، وضمور عروبتك بكرمها, وسقوط روحك النقية التي نفخها الله من روحه فيك! بقليل من الطمع.. وبكثير من الرغائب، وبكثير من الطلب لما لا تملك، ولكونك لا ترتفع بعينيك إلى هبات الله عليك، دون أن تغضي عن هباته على غيرك..! هذه يجعلك لا تسمع ''أيكم يكفل مريم''. أينا يكفل يتيما! أينا يغيث ملهوفا؟ وأينا يفرج عن مكروب أو مدين؟ أو صاحب حاجة، عجز عن السير في الحياة بوطأة ثقلها عليه، أينا.. يفتح بيتا.. أغلقه الفقر, أو يغلق قبرا.. يحفره المرض بأصابع وجعه؟.. أينا قال (أنا) وما بعدها عطاء، وليس أخذ..! وهبة.. وليس طلبا, أينا قال: (أنا) وما بعدها الملاذ لغريق، والحياة ليباس الموارد وظمأ الينابيع!
أيها السعوديون لا تقيموا ثمنا لشيء، فأحقر الأشياء أثمن من أن يثمن! البذل فضيلة غاب عنها أهلها والعطاء بات لا يأتي إلا بتقتير وبكثير من التعيير والمن, يشبه حبات الملح على الفقر الكثير.
أكفل يتيما واحدا خير من كتابة ألف مقال ومقال عن العوز, والفقر, والجريمة! تصدق كل يوم بصدقة واحدة نعم أعنيها وأعرف دلالاتها في تسلسل العد ومقامها في الأعداد .. إلا أنها من كل واحد منا كافية جدا.. وقادرة كثيرا على التغيير, وعلى إعادة كتابة أقدار الكثيرين! ربما لهذا السبب يسوق الله المطر حبات صغيرة إلا أنها متتابعة ومتصلة في كل مرة! ليرى الإنسان أن عطاياه تأتي صغيرة يجمعها لتكبر وتأتي منفردة إلا أنها تكون المحيط والأنهار, وتخصب الأرض وترزق الحياة لكل شيء حي! فوق الأرض وتحتها, ظاهرها, وباطنها! كما هي نفسي، وكما هي نفسك.. ستتطهر..! من (أنا) عبادة الذات, (أنا) الشح, وأنا القبض على العظام حتى تدمي الأسنان على ما لا تأكله إلا الكلاب الضالة!
كل واحد منا مملوك لما يملك! كل واحد منا مملوك لمنصبه الذي هو فيه, ومملوك للمال الذي عنده, وللمال الذي جمعه، وللمال الذي يتطلب أن يعثر على المزيد.. والمزيد منه دون توقف, ودون التأمل في الثمن المقابل لهذا الجمع, ولا النظر إلى الأرواح البريئة التي تلفت بسبب هذا الجمع, دون النظر إلى السيول التي من الممكن أن تغرق أحلام أمومة غافية, وحب بريء طاهر لم يجلله ضوء قمر، وسجادة صلاة لم تزل مبسوطة اليدين تترقب قرآن الفجر المشهود.
أي ذات فينا تتكاشف على نفسها، فتراها قد أعطت الحق المعلوم للسائل.. من مضاضة العوز، والمحروم من سبل الكسب، وفرص الحياة الكريمة! إذا لما كثر نعيق الغربان على الخرائب, ولا وقفت حمامة الفقد والحزن على أسمال يتم وفقر طفولة، وهدر كرامة شيخ ضعيف عاجز.. وأرملة لعفة نفسها تحيرها يدها أن تُلقيها؟
تكاثر حول فقرائنا الهدر، وشح عليهم المطر..! وندرت أرغفة الخبز، واستقرار القوت.. وإطعام الجوع.
أمة الباقيات الصالحات, بلا صدقات تجبر عظما مكسورا, ولا ترفع فقرا باديا، ولا تلم شيخوخة متهتكة بالضعف وانعدام الحيلة، أيكم يكفلهم! أيكم يفتح في قلبه سبيلا من سبل الرحمة والرأفة والشفقة.. ويجعل (أناه) واسطة فيض رحمات الله على الخلق بالحب كله, بكل رقته, بكل حنانه، بكل تجلياته.. وبكل عطاياه!
هل نلقي بسهام القرعة على كسب كفالة فقر ويتم..! أم أن القلوب باردة كما هو بارد كل شيء ميت؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي