منظومة التمويل الإسلامي التنموية وضرورة تفعيلها
سألني طالب منتظم في مادة للمصرفية والتمويل الإسلامي هو غير مقتنع بما يطرحه المحاضر، معتقداً أن كل ما يقوله المحاضر ينضوي تحت مفهوم "حيل المصرفية الإسلامية"، وأن العملية التمويلية الإسلامية هي عملية تمويلية غربية تمت أسلمتها من خلال تغيير في الإجراءات بطريقة تتعرض بصورة أو بأخرى لإحدى صفات الله وهي "العليم" حيث إن التحايل في العملية التمويلية المؤسلمة مع ثبات النيات يعلمها من يعلم السر وأخفى، ومن يظن غير ذلك فهو غير موحد لله بهذه الصفة.
قلت لهذا الطالب إنني لست فقيها لكي أرد عليك كما أنني لست متخصصا في المصرفية عموما والمصرفية الإسلامية على وجه الخصوص ولكني ناشط في الحقل الاقتصادي وأعرف أن التمويل أوكسجين الأنشطة الاقتصادية كافة سواء من جهة الإنتاج أو من جهة الاستهلاك فالمنتج والمستهلك على حد سواء يحتاجون إلى التمويل، فالمصنع المنتج للسيارات على سبيل المثال يحتاج إلى تمويل بالمليارات لينتج كما كبيرا من السيارات وكذلك المستهلكين يريد كل منهم تمويلا بعشرات الآلاف لشراء السيارة المناسبة بالتقسيط.
ومن خلال ما أطلعت عليه مما كتب في الاقتصاد الإسلامي رأيت أن الشرع الإسلامي عدد وسائل التمويل وربطها كافة بعبادة الله سبحانه وتعالى وبالأجر والثواب والعقاب والجنة والنار ليحفز المسلمين للعمل من بدائل تمويلية محللة وتجنب ما هو محرم منها (ربوي)، وجعل كل وسيلة تمويلية تناسب المستفيد والحاجة وضرورة تلبيتها في الوقت المناسب.
ومن ذلك أن جعل الزكاة وهي الركن الثالث من أركان الإسلام أحد مصادر تمويل المحتاجين فهي تمويل إغاثي لمعالجة مشكلات قائمة ويتضح ذلك في مصارفها التي بينها الله سبحانه وتعالى وحصرها في ثمانية مصارف بقوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة (60)، وهي بالنسبة للمفروضة عليهم مسؤولية أخلاقية وبالنسبة للدول مسؤولية قانونية أن تقوم بتحصيلها سنويا من الأغنياء وتؤديها لمستحقيها، وبالتالي فالزكاة أداة تمويلية سنوية تحقق للمجتمع المسلم التكافل وتحمي أفراده المعوزين من المشكلات والجرائم والانحطاط دون أن يتعرضوا لابتزاز من أي مصدر تمويلي آخر.
مصدر التمويل الإسلامي الثاني "القرض الحسن" وهو ما يعطيه المقرض من المال إرفاقاً بالمقترض ليرد إليه مثله دون اشتراط زيادة، حيث شجع الإسلام المسلمين الميسورين على إقراض أصحاب الحاجات منهم والذين يتعرضون لظروف طارئة تستدعي الاستدانة، ومن ذلك ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة"، وأعتقد أنه حان الوقت لأن تقوم الدولة بإيجاد صيغة معيارية واحدة للقرض الحسن يتكاتب بها المُقرض والمقترض وتكون برعاية إحدى مؤسسات الدولة العدلية لتكون ضامنة للحقوق لأن المسؤولية الأخلاقية للمقترض فقط أفقدت الثقة بهذه الآلية لدى كثير من الأغنياء، وبالتالي فإن المسؤولية القانونية للسداد إذا كانت برعاية الدولة وفق نظام صارم ستعيد لهذه الآلية مكانتها وفعاليتها في تكاتف المجتمع ليمول بعضه بعضا في الظروف الطارئة.
الصيغة التمويلية الثالثة "الوقف الإسلامي" وهو حبس الأصل وإنفاق الريع في مصارفه المخصصة من الواقف، وهو مصدر تمويلي تنموي هائل وتراكمي يخدم كل المجالات المحتاجة للتمويل كالتعليم والصحة والطرق والبنى التحتية والأبحاث ورعاية وصيانة المساجد وغير ذلك كثير. ولقد لعبت الأوقاف دوراً كبيراً في تنمية العالم الإسلامي سابقاً وتمويل الكثير من طلبة العلم والباحثين والأطباء وغيرهم. والأوقاف اختيارية للأثرياء المسلمين ولقد اعتادوا على إيقاف الثلث وهي مسؤولية أخلاقية للواقفين ولكنها مسؤولية قانونية للناظر على الوقف وأعتقد أنه حان الوقت أن تقوم الدولة بتأسيس هيئة خاصة لإدارة وتطوير الأوقاف وصرفها في مصارفها المحددة بشكل أمثل هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى توثيق النظارات الخاصة ومتابعتها لكيلا نعتمد على المسؤولية الأخلاقية فقط للناظر الذي قد تحدثه نفسه بالاستفادة من الوقف على حساب مصارفه.
وأعتقد أن الصيغ التمويلية الإسلامية لأصحاب المشاريع التجارية تنحصر في ثلاث صيغ وهي المرابحة والإجارة والمضاربة، وهي صيغ تقوم على المشاركة في الأرباح والمخاطر بين الممول والمستثمر. والجميل في هذه الصيغ الإسلامية أن تمول أصحاب الأفكار والقدرات والطاقات دون ضمانات إذ عادة ما يكون الضمان العين المشتراة أو المؤجرة أو دراسة الجدوى للمشروع، وهذه الصيغ تخضع للمسؤولية القانونية للطرفين حسب أنظمة الدولة المقررة ويتم التخاصم فيها حال الخلاف لدى السلطات القضائية.
ختاما أعتقد أن لدينا منظومة تمويلية إسلامية رائعة غطت كل أنواع التمويل الذي يحتاج إليه المستفيدون دون تعريضهم للابتزاز أو لعقود الإذعان ودون تعريض كرامتهم للخدش، وأعتقد أنه حان الوقت لتفعيل هذه المنظومة التي تقوم على الشراكة والخوف من الله سبحانه وتعالى ثم المسؤولية القانونية أمام السلطة لتحل محل منظومة التمويل الغربية القائمة على الفائدة التي تغلب مصلحة المقرض على المقترض وما يتبعها من ضرورة توفير ضمانات يعجز الكثير عن توفيرها، وأتمنى أن تحل أيضا محل المصرفية الإسلامية المحسنة للعمليات المصرفية الغربية والتي أطلق عليها البعض مصرفية الحيل الإسلامية.