هل مصر قادرة على التحديث؟
يقول أحد المختصين في تاريخ مصر القديم إن مصر طوّرت البيروقراطية والحكم المركزي (التسلطي) بسبب المعاناة المستمرة مع فيضانات النيل المكلفة. تسخير النهر مكّن مصر من بناء حضاري وتأسست دولة عريقة في منطقة من العالم ليس فيها دول كثيرة بالمفهوم الجوهري للكلمة. إذا قفزنا إلى العصر الحديث حاول محمد علي ونجح في إعادة بناء مصر الحديثة ولكن سرعان ما تكالبت الظروف والحكم الرديء لمَن خلفه إلى أن احتلت مصر ثم استقلت وحاول عبد الناصر النهضة مرة أخرى ولم ينجح، خاصة لما اعتنق سياسة اشتراكية دون وعي بالاستحقاقات التنموية والتورط في نزاعات أكبر من قدرة مصر. منذ الحقبة الناصرية إلى الحراك الأخير (لا يستحق اسم ثورة إذ ليس هناك تحولات ثقافية أو اقتصادية في المجتمع).
أحد معالم الحراك السياسي المصري اليوم يتمخض في خلخلة الحكم المركزي على خلفية ضعيفة اقتصاديا وارتفاع سقف التوقعات وحدة العاطفة والتي في نظري لم تعط حقها في فهم الشخصية المصرية - فالعاطفة المصرية قوية وجياشة ولكنها غائبة عندما يكون الجهد الجمعي مطلوبا لخدمة مصر فعليا. ظهرت تجليات هذه النزعة العاطفية أثناء أحداث مباراة مع الجزائر حينما انجرف الإعلام والكثير من مثقفي مصر في مهاجمة تلك البلد وتكررت التجربة في قضية الجيزاوي الذي اعترف بتهريب ممنوعات إلى مطار الملك عبد العزيز. خلخلة مجتمع قائم تاريخياً على الحكم المركزي ممزوجاً بهذه الطاقة العاطفية وشح في المقدرات الاقتصادية وضغط سكاني سوف ترفع درجة المخاطر على مصر والمصريين وكل مهتم بأمن مصر ودورها.
للحراك المصري تعبيرات وشعارات سياسية ولكن مادته اقتصادية. اقتصادياً مصر في وضع أصعب بعد الحراك ولكن التعامل مع القضايا الاقتصادية الملحة والرئيسة يتطلب مركزية في الحكم مهما كان الطريق إلى هذه المركزية. هناك طريق تسلطي ولكنه قد يكون جامعاً وقادراً على الأخذ بمصر إلى الأمام. ولكن التردد حول قبوله مفهوم في ظل تجربة مصر السياسية خاصة منذ عام 1952م. في العمق ليس هناك مهرب من إيجاد المعادلة المناسبة لرفع العائد على المزيج الاستثماري مادياً وبشرياً ومؤسساتياً. الطريق الأمثل هو حكم مركزي جامع وتحوير العواطف إيجابياً والتعامل مع الواقع وليس سقف التوقعات المحدد من خلال شعارات سياسية. هناك طريق ديمقراطي ولكن درجة الاستقطاب السياسي والعاطفة وعدم الثقة بين أقطاب النخب والظروف الضاغطة اقتصادياً لن تسمح بتمكين الديمقراطية في المدى المنظور، فليس هناك وقت كافٍ فالنفط في نزول والسكان في تزايد والمساعدات الأجنبية لن تكون كافية أو مستمرة دون تكلفة والأمية عالية وفهم الديمقراطية على أنها طريق سريع للحصول على حياة أفضل دون وعي بالاستحقاقات الإنتاجية، كل هذه العوامل تجعل من الديمقراطية بمفهومها الغربي أمل ضعيف للبناء في المدى المتوسط.
يقول المثل الصيني إن كل تهديد يحمل في ثناياه فرصة، فمصر تتعرض للتهديد داخلياً والعالم يتفرج على النخب المصرية. فهي تحت الاختبار فليس هناك شواهد لتدخلات أجنبية مؤثرة ومهما كانت فهذه لن تعفي النخب المصرية من مسؤولياتها التاريخية أو المواطن المصري في التحكم بعواطفه ولو لبرهة.