اليومَ مُلهَـم.. وغدا مُلهـِم
تأملات الاثنين-4
- تصوروا يوماً نعيشه مستقلاً متحرّراً من ضغط الماضي، وغير متطلع لمصير المستقبل.. لكان أجمل يومٍ في حياتنا. صحيح، لا حاضر بلا ماض، ولا مستقبل بلا حاضر.. ولكن ماذا عن الحاضر نفسه؟ إن الحاضر هو اللحظة الحقيقية في حياتنا التي تملؤنا بحيوية الوجود، وتمازجنا مع ما وهبه الله لنا بعناصر الحياة، لنراها، نتذوقها، نشمها، نفكر بها، ونمسكها ونرميها. ما الماضي إلا لحظات أفلَتْ وانسلختْ من أعمارنا ولن تعود، فهي ليست لحظة حياة ووجود، وليس المستقبلُ إلا تهويماً فكرياً خيالياً لا ينبض ولا يُعاش ولا يُشعَر، وليس لحظة حياة ووجود. إن اللحظة الراهنة هي كل ما نملك.. وهي ما يربطنا بالماضي ويقودنا للمستقبل. ابدأ بأن تقبّل وجنةَ أمِّك، انظر متعة اللحظة وأنت تلامس بأشدّ دقائق أعصابك حساسيةً أعظم بشرةٍ على الأرض بالنسبة إليك، ومضخات السعادة كيف تعمل داخل مصنع جهازك الحسي وأنت تشعر ببشرتها تتمدد وهي تبتسم حباً ورضى وسعادة. انظر إلى عيون أطفالك يتطلعون إليكِ كأمٍّ ولا يرون في الحياة ملاذاً إلا أنتِ وكأن بوسعك أن تجابهي العالم وتدفعينه عنهم وحدك، تقرأين ذلك في اللحظة بعيونهم الصافية فيصب في قلبك.. وأبناؤك يمسكون بأياديهم الصغيرة يدك كأب، ويرونك عملاقاً مارداً قوياً لن يستطيع أي شر أن ينالهم لأنك أقوى من الشر. طعم شهادة النجاح، طعم أول ثناء على إنجاز، طعم الصداقة.. كله بلحظتك هذه، ولكن نكتشف بالحقيقة الباقية أن بلحظة صفاءٍ وتعايشٍ مع اللحظة تعيش الحياةَ حقا.. دفعتك موجةٌ من الماضي لتسلمك لموجة من المستقبل!
- نعيش في عالم فيه قلوبٌ كسيرة، والسبب وعود مكسورة.. العالم يطفح بكثرة الوعود، ولكنه أيضاً يفيض بنقض أكثر تلك العهود. تبدأ من أبسط الأشياء: تعِدُ صديقاً أن تهاتفه في الغد، ثم لا تفعل، نسيت رغم حرصك، أم تعمدت المجاملة، أم أهملته، سواء بالنسبة إليه. إن انتظر المكالمة منك ولم تأتِ فسينكسر قلبُه، سيشعر أنك لا تعتبره شيئا في حياتك، لأنك لا تنسى الأشياء المهمة التي تخصك. وسيشعر بالإهانة والتقليل وهما جرحان مؤلمان يغوران في جسد الكرامة الفردية.. فكيف عندما ننقض عهودَ الحبّ والزواج، والشراكة الحياتية، والشراكة العلمية، والشراكة التجارية.. إن قلوباً ستنكسر، ومصائر ستتغير، وأنفساً ستتوه وتضيع. نضع الوعودَ في العقود للعاملين والعاملات ثم ننقضها ونتحايل على نصوصها، فتنكسر القلوبُ والمبادئ والشرف والنظام والقانون، واحترام الإنسان للإنسان. وموظفون كبار يقومون على خدمة الملايين ويعدونهم بجنة عدْن حيث المنِّ والسلوى، وإذا أبعد ما ينالونه هي الجِنان.. بل تتعقد حياتهم الأرضية أكثر، فتنكسر القلوبُ، وتضيق وسائلُ الحياة، ويشتعل الغضبُ والاحتجاج، وتضعف عُرى الأمة.. كلها وعود مكسورة. أقرأ التاريخ.. لم يمرض البشرُ عقليا، ولم تتدهور مجتمعاتٌ، ولم تتهاو أركانُ أممٍ إلا بسبب وعودٍ مكسورة. الحلّ: أن نجبر تلك الكسور!
- كل فردٍ على الأرض لا يعيش فقط لمجرد العيش، إن الله لم يخلق البشر ليعيشوا، بل ليحيوا.. وفي العيش استسلام الطبع الغريزي بلا صيَغ العقل، فلا تصنع شيئا في الحياة، ولا تصنع شيئاً لنفسك. أما من يحيَون فهم لا بد عاملون شيئا من أجل تغيير في الحياة، أو تطويرٍ، أو تبديلٍ، إنهم في حركة والحياة الحقيقية بحرٌ بأمواج.. فإنك إما تصنع موجة كبيرة فتعبر الضفاف، أو تصنع موجة صغيرة فتكون هي من مكونات الموجة الكبرى. وبينما يقول لنا علم الميكانيكا - الحركة - إن الأجسام ثابتة حتى تدفعها قوة فتتحرك للأمام. فإن حافز الحركة التغييرية البشرية هي الإلهام. الإلهام طاقة خفية تأخذ بمجامع حياتنا وتقودنا من غير أن ندري، أو ندري، ونحن برضى وسعادة كاملين.. أي أنها تعطيك الحركة كي تتحرّك للعمل.. وتتمتع في أثناء ذلك. الإلهام يأتي من حب الناس، فأديسون أحب الناس بأكواخهم والظلام يغمرهم فألهموه المصباح الكهربائي، و"باستور" رأف لحال مرضى معقورين بعضات الكلاب والحيوانات السائبة فألهموه للانكباب على تحصينٍ ضد المرض، ومقاتلو الحرية يبذلون حياتهم حباً لإطلاق الناس من أصفاد العبودية والسيطرة الغاشمة. وقبلهم الأنبياء الذين بأمر الله أدّوا رسالاتِهم حُبّا للعالمين. ألهم نفسك قدر ما تستطيع، اقرأ كتابا لشخصٍ يلهمك، تابع شخصاً له أعمال تلهمك، اجلسْ مع أصدقاءٍ متحمسين للإلهام.. واليوم تكون باحثاً عن الإلهام، وغداً تكون مصدراً له!