رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ريما.. هذا ما حدثَ بعد أن رحلتِ

* حافز الجمعة: عندما نفقد عزيزا في حياتنا نشعر فجأة أننا على حافة هاويةٍ من الفراغ والافتقادِ المؤلمَيْن. ونحن هنا مخيرون إما أن ننجرف ونقع في الفراغ الذي يمتص حيويتنا، أو أن نرفع رؤوسَنا للسماء ونتذكر أن أحبابنا يودون لنا أن نكمل مسيرتهم، وأن نتابع الإنجازاتِ من أجلهم، فهذا يسعدهم وينفعهم.. ويسعدنا ينفعنا.
***
* شخصية كل أسبوع: مرَّ حولٌ وبعض أيامٍ على رحيل "ريما نواوي". شهابٌ أضاء على شباب الأمة فزرع في أرواحهم الرضا والتفاؤل والابتسام. تقاطر الناسُ على حساب ريما بالتويتر آلافا طلبا لهذه الروح المتفائلة المؤمنة والراقية الابتسام حتى وهي تصف عراكها الملحمي مع الورم الذي احتل جسدها المُنهَك.. في غربتها بأقاصي الدنيا. ضربت ريما مثلا باذخا في التفاؤل، بل كانت تزعل بطريقتها إن بكى لها أحد أو أبدى حزنا، وتعيد كلمتها الأسطورية التي تكون بلسما فوريا لكل حزن وتأوه، وبلهجة أهل مكة: "ليه.. ليه إيش علّمتكم أنا؟ يالله ادعوا وانبسطوا" وكان أشد الناس حزنا يدعون لها ثم يواكبون قصصها التي تنافس بها قصص "مارك توين" و"لامارتين" و"الأصفهاني"، في خفة الرواية والقدرة على نزع الابتسامة، وإثارة خلايا الخيال، وتطلق أسماءً ورسوماتٍ من وحي اللغة اليابانية التي تعلمتها ذاتيا على من تتصارع معهم من الورم إلى العلاج الإشعاعي إلى الإبر المغروزة في الجلد الذي امتلأ بالكدمات. لم يضحكني شخصٌ حتى الآن كما أضحكتني ريما، كنت أطلب منها ترجيا أن توقف تتابع إضحاكها لأن فكّي يكاد يسقط تشنجا وألما. ألهمتْ ريما آلاف الشباب ليس في الخليج والسعودية فقط، بل في كل العالم العربي، وهناك الآنسة الأديبة "مليكة الشويري" من المغرب قالت فيها قصيدة حفظتُها زمَنا ثم ضاعت مع ملفات ضربها فايروس، وأرجو من مليكة إن كانت تقرأ هذا أن تعيد إرسالها، فما رأيت أجمل إيقاعاً ووزناً خفيفاً حفيفاً حزيناً ومريحاً في آن مثل تلك القصيدة المشطرة، وقارب تصوير شخصية ريما. رحمك الله يا ريما، دفعتني لأنظر للأعلى وأتابع أعمالا كنت بها تقومين، واكتشفت أني أسعد بها نفسي. ما زلتِ يا ريما تسعدينني وأنت في الأبدية.
***
* قصص كثيرة حصلت بعد رحيل ريما، صارت إلهاما لمرضى كثيرين من الصغار الذين كتب الله لهم الإصابة بمرض الرحمة، حكايا عشتها مع كل واحدة، مع كل واحد، وكان الدافع والقدوة دوما "ريما نواوي". قصص قطّعت أجزاءً من قلبي وكنت أظنّ القلبَ سينهار، فكلما تعلقتُ بواحد وواحدة منهن يأتيني خبر الرحيل، شهقتُ وبكيتُ كثيرا، فلوعة الفقدان مؤلمة، ولكن دائما يأتي ذلك الوميضُ الذي يجعلني أحزن براحةٍ إيمانية غامضة.. بأنهم، وبأني بخير. لأني كنت أتحدث معهم وهم كلهم إيمان وعزم. أتذكر "نورة" التي كانت تردد اسم ريما، وتبدي بها إعجابا، نورة كانت صغيرة بها طهر الملائكة، لا تعرف إلا المحبة والرجاء، ولما رَحَلتْ كتبتُ هنا عنها، وكنت أظن أني لن أواصل.. حتى فهمتُ رسالتيْ ريما ونورة: "واصل، لا تقف!". في الأسبوع الماضي فقدتُ الطفلَ "حسن" الذي أرسل لي خاطرة أدبية تذيب الفؤاد المنحوت من الفولاذ.. قال أبوه: "مات سعيدا أنه قرأ حروفه في صحيفة يتداولها الناس". أترون كيف نتفنن في البحث عن التذمر والحزن واللوم والاتهام ونحن أحياء نضجّ صحةً وعافية، ومن ينامون كل ليلة مع نُذر الحقّ لا تعرف قلوبهم إلا الأملَ صافيا، والرجاء برحمة إله عظيم. "نجيب، خلاص؛ اشتقت لربي.." جملة قالتها لي ريما، وقالتها نورة، وقالها حسن.. وقالها أبطالٌ يعيدون صنع كامل نظرتنا في الحياة.. بعد أن غادروا الحياة.
***
* والمهم: السعادة هبة سماوية لا نخطط لها كي تحصل، بل إن التخطيط لها يبعدها. والحزن اختيارٌ استسلامي إن خططنا لحصوله فسننجح تأكيدا في حدوثه. علينا أن ندرك أن السعادة لا تُلاحَق بل هي تختار الوقت والمكان لتلامس شغافَ قلوبنا متى أرادت، ثم يعتمد بقاؤها على استعداد تلك القلوب للترحيب بها. والحزنُ يخيم بسهولة متى وجد قلوبا تبحث عنه، ولكن الحزنَ لا يأتي وحيدا، فهو ضيف ثقيل، يأتي معه برعيته اللصيقة: الكآبة والقنوط وأمراض الجسد. أبقاكم الله من السعداء.. بأي حال بأي ظرف، بأي مكان.‏
في أمان الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي