لماذا لا نتبنى تصدير المؤهلين عالمياً؟ (2 من 2)
نعم هو مخزون أمة ونتاج إنفاق كبير وصبر بعد طول انتظار، وحاجة إلى تحقيق نمو وتأصيل مفهوم التنمية، مما يعكس رعاية واهتماما غير مسبوقين بالمواهب وغيرها من المبررات. ولكن هل ''الحفاظ على المواهب'' هو البحث عن مسببات للإقصاء والتهميش والإهمال لكوادر يمكن أن يستفاد منها في مسيرتنا التنموية بكل جدية؟ التفاصيل هنا تم ذكرها في عديد من المقالات السابقة ولا يمكن استعراضها. ولكن لسنين ونحن أمام قضايا يتم تناقلها يوميا بين أروقة الجهات التنفيذية وفي مكاتب ومكتبات الجهات التعليمية لقتلها بحثا، وعلى منصات كثير من الملتقيات والندوات والمؤتمرات، ولا يزال الحديث عن ''الموارد البشرية'' و''المواءمة'' لا ينتهي لحل جذري.
إن ما يوجد الاختلاف في الرأي على المستويين العربي والخليجي، أن هناك بيئات إدارية ما زالت لا تقبل التغيير، وقد يصل بها الحال إلى رفض أي فكر يمكن أن يكون له تأثير إيجابي في المجتمع، لأنه يمكن أن يبرز صاحب الفكرة على صاحب الكرسي. لذلك حري بنا مراجعة الإيجابيات والسلبيات أو السيئات والحسنات لأي مشروع، ومن ثم نضع آلية تنفيذه عمليا إذا ما ثبتت أهميته وسلامة نتائجه. وبالنظر إلى ما وراء الواضح والظاهر فمن الملاحظ عموما أن الشرق والغرب يتقاذفان الخبرات والأيدي العاملة، جاعلان الدول العربية التي تقبع تحت هذا الجسر وما جاورها، حقول تجارب وتدريب ليكون الشرقي مناسبا للعمل في الغرب، وليكون الغربي مطورا لأدوات وتقنيات في الشرق وتصبح بذلك المنفعة متبادلة. فما الذي يمكن أن نكسبه مما نرى ونقرأ؟ سيكون من الصعب علينا أن نتبين إيجابيات وسلبيات الأمور متفقين تماما على تحليلها بشكل موحد. ولكن يمكن اقتراح نموذج يتعامل مع وزارة للصناعة أو التكنولوجيا بمهام مهنية وتعليمية وفي التدريب. وهيئات تعنى بشؤون تعثرت فيها بعض الوزارات ومراكز تفتتت مهامها وتجمعت في جهات أخرى لتحريك ما سكن وإعادة توجيه ما أصبح يتحرك.
واقعيا لا بد من التحلي بالشجاعة أمام قرارات من شأنها أن تغير مجرى مسار تعودنا عليه زمنا طويلا. إن نظريات التنمية واستقطاب الموارد البشرية تدرس في الجامعات منذ عقود، ولكن أصبح يوجد لدينا ''بطالة'' الآن. لذلك يمكن الاهتمام بغير المؤهلين والمتعثرين محليا ونستفيد من أصحاب التخصصات المتوافرة فيها أعداد مناسبة خارجيا. بالتقبل النفسي للدعم المالي داخليا وخارجيا لأبنائنا وكافة مواردنا، سنكون أكثر جرأة إذا ما اختير أحد المؤهلين ليرتفق بإحدى الجامعات العالمية ويكون فيها مستشارا أو محاضرا أو باحثا في معمل يعول عليه الكثير عالميا في الصناعة أو التطوير التقني أو التقدم الطبي لبعض المهارات المتخصصة.
في عام 2011 نشرت كوريا تقريرا عن تخطيطها لكيفية قيادة الإبداع، مرتكزة إلى الاهتمام بالعلوم والتقنية. بعد استعراض لإنجازات خمسة عقود من الزمن في مشاريع الصناعة والزراعة وتأثير R&D في مسيرتها، وكيف يمكن تحديد محور الحركة في السوق العالمية. في استعراضهم بينوا آلية التغيير في الهيكلة الادارية على مستوى الوزارات التي بتغيير المسميات والمهام توجهت الأعمال نحو الموارد البشرية فكرا وصناعة وتسويقا عالميا. بمقارنتهم أنفسهم بأربع دول أخرى هي الصين واليابان وفنلندا والولايات المتحدة في هجرة العقول، وضح أن الولايات المتحدة تتربع أعلى المقياس عالميا بدرجة 7,9 من 10 في حين كانت كوريا في آخر تقدير لها لعام 2006م تقريبا 4,9/10. لقد توقعوا أن يكون قصورهم في أعداد المؤهلين بدرجة الدكتوراة في العلوم والتقنية بما يقارب 4500 مؤهل والحاجة مستمرة داخليا، مما يعني أخذ تنمية الموارد البشرية في الاتجاهين في الحسبان.
كان مما تنبهوا له في عام 2004م أن هناك حاجة ملحة لإعادة هيكلة القطاعات بحيث تقسم بعضها إلى مجالس وأخرى وزارات مستقلة وهكذا، مع الاهتمام بعملية الربط والترابط لتحقيق الأهداف الرئيسة في صورتها المأمولة. ومنذ ذلك الوقت والتغيير كان يعاد النظر فيه كل أربع سنوات، لأنهم قرروا أن يحققوا هدفا ولابد أن يسيروا لتحقيقه. القرار انتهى إلى أن ''العلوم والتقنية'' هي المسار الذي اختير الإبداع فيه وبالتالي تعاونوا على إزالة كل العوائق من الطريق ليكونوا أصحاب سبق في سوق التقنيات العالمية.
أعتقد أنه يمكن أن تبدأ وزارة التخطيط مع وزارة المالية ووزارتي الخدمة المدنية والعمل على إعداد قواعد البيانات وتوحيد تعريفات خصائص العمالة والعمال في السوق. ثم بنتيجة دراسة علمية ميدانية متوازنة (تجرى في صروحنا الجامعية) يمكن وضع نموذج مستقبلي يراجعه مجلس التعليم العالي ليكون لوزارة التعليم العالي، التربية والتعليم، والتدريب المهني نظرة ورأي ينقح المنتج المستقبلي. ثم من بعد ذلك يتم وضع لائحة أو ضوابط تنظم خروج المؤهلين لتبادل الفكر والثقافة مع الدول التي تقدمت في المجال الذي سنختاره مبدئيا، خصوصا أننا - ولله الحمد - ننعم في السعودية بأمن واستقرار سياسي وإمكانات مالية تجعل من المسببات الرئيسة ''للهجرة''، المتعارف عليها لا محل لها من الإعراب. هنا يمكن الاستفادة من تجديد الدماء وتحقيق الاكتفاء داخليا بمختلف المؤهلات والمستويات والتخصصات. وبالتالي يمكن البروز في أحد المجالات، ولتكن مثلا الخدمات الصحية بكافة مستوياتها وفروعها؛ حيث في هذا القطاع المتوسع دوما كثير من الإبداع والتميز الممكن رصده بناء على ما بدأ يتحقق خلال الخطط الخمسية الأخيرة. ولله الحمد والمنة.