«ساهر» بين الفكرين الاستثماري والمروري
في الحرب العالمية الثانية صنعت الولايات المتحدة جسرا بحريا من خلال ناقلات تجارية عملاقة لإيصال السلاح إلى حلفائها التي تعرضت لهجمات الألمان والحلفاء بالطائرات والغواصات والبارجات الحربية، ما جعل أمريكا تنفق عليها بعد موافقة الكونجرس لتجهيزها بالأسلحة بتكلفة عالية آنذاك، هذه السفن بدأت تسقط الطائرات وتدمر البارجات ثم ما لبث أن انخفض عدد الطائرات المسقطة والبارجات والغواصات المدمرة، ما جعل الكونجرس يناقش وزارة الدفاع حول جدوى المبالغ الكبيرة التي أنفقت لتسليح السفن وهي لا تسقط أو تدمر إلا القليل.
قادة الجيش أوضحوا لأعضاء الكونجرس أن الغاية من التسليح ليست إسقاط الطائرات وتدمير البارجات والغواصات، إنما الغاية من ذلك تمكين الناقلات من الوصول بسلام للحلفاء، وهو ما تحقق بنسبة عالية أفضل بكثير من قبل أن يتم تسليحها، وعندها اقتنع أعضاء الكونجرس بأن تكاليف تسليح الناقلات مجدية بعد أن نسوا الغاية من التسليح واختلطت عليهم الغايات والأهداف.
أعتقد أن هذا الوضع يتكرر مع نظام ''ساهر'' للرصد الإلكتروني، حيث إن المستثمرين يعنيهم بنهاية اليوم أو الشهر أو السنة العائد على الاستثمار، وقادة المرور يعنيهم في نهاية اليوم أو الشهر أو السنة عدد الوفيات والحوادث والأضرار المادية التي لحقت بمستخدمي الطريق وشتان ما بين الغايتين.
لو كنت مديراً لإحدى الشركات المستثمرة في نظام ساهر سأبذل قصارى جهدي لزيادة المخالفات المسجلة يوميا وسأضع الخريطة أمامي وأفكر بكل جد واجتهاد للترصد لقادة المركبات والتمكن من مخالفتهم لزيادة الإيرادات والأرباح في نهاية الشهر أو السنة لأحقق العائد على الاستثمار المستهدف، وبكل تأكيد سيسعدني جهل قادة المركبات بالأنظمة واللوائح ليرتكبوا المزيد من المخالفات، ذلك أن كل مخالفة إنما هي دخل لصالح الشركة التي تقيمني بنهاية السنة على أدائي في تحقيق الإيرادات والأرباح لا على أدائي في خفض عدد حالات الوفيات أو الحوادث أو المخالفات أو غير ذلك مما يعني إدارة المرور.
ولو كنت مديرا للمرور سأبذل قصارى جهد لتوعية مستخدمي الطريق بحملات توعية مكثفة ومتنوعة وتوجيه أدوات الرصد المروري إلى الأماكن التي تكثر بها السرعة وقطع الإشارة وتسبب الحوادث القاتلة والمخالفات الجسيمة والإصابات البالغة وأعلنت عن ذلك ووضعت المزيد من الكاميرات الوهمية إضافة إلى الحقيقية للحد من المخالفات بكل أنواعها خصوصا السرعة وتجاوز الإشارة الحمراء ومخالفة الخطوط الأرضية، ولتشددت بشروط الرخصة من جهة وعي المتقدم بأنظمة المرور كافة، وذلك للوصول إلى أعلى نسبة خفض للمخالفات والحوادث والوفيات والأضرار المادية والصحية، إذ إن ذلك مجال تقييمي الحقيقي من المسؤولين بوزارة الداخلية من جهة والمواطنين وصناع الرأي من جهة أخرى.
لنتحدث بصراحة: المواطنون كما اطلعت على تعليقاتهم على نظام ساهر يريدون حماية مستخدمي الطريق وممتلكاتهم بكل الطرق والوسائل وعدم التركيز على حمايته بتنظيف جيوبهم تحت هذه الذريعة، وأعتقد جازما أن الرسالة التي رسخت في أذهان أغلب المواطنين أن نظام ساهر هو نظام جباية لا حماية وأنه نظام يزيد من سمنة القطط السمان على حساب المواطن الذي يعاني ضعف الدخل، مقابل ارتفاع الأسعار المتزايد، ما جعل الكثير منهم يطلق عليه ''سارق'' بدل ''ساهر'' كما هو في ''تويتر'' و''فيس بوك'' والمواقع الإلكترونية.
وأقول نعم المخالف لأنظمة المرور يستحق المخالفة والعقاب إلا في الحالات الاستثنائية ولكن لا يكون ذلك بنظام استثماري تحول من نظام ''رصد إلكتروني'' غايته الحد من المخالفات إلى نظام ''ترصد إلكتروني'' غايته ضبط المخالفات بشكل غير سوي، ما جعل كاميراته بكل أنواعها تتطلب حماية خصوصا المحمولة على السيارات المتنوعة التي فاقت كثيراً كاميراته الثابتة التي يعرف مكانها الناس ويلتزمون بسببها بالسرعة النظامية، وهي سيارات تغير مواقعها وطريقة وقوفها وتبحث عن الأماكن المتذاكية لضبط المزيد من المخالفات بشكل مثير للغضب.
الطابع الاستثماري لـ''ساهر'' تجلى بسرعة تنفيذه قبل استكمال متطلبات التنفيذ ودون مرحلة تجريبية، حيث تم رصد مخالفات هائلة قبل استكمال اللوحات الموضحة للسرعة، وتعديل معدلات السرعة بما يتناسب وسعة الطريق وكم الاستخدام، وكل ذلك تم فيما بعد، وإن كانت معدلات السرعة ما زالت غير مقنعة، حيث طرق بثلاث وأربع حارات سرعتها 80 كلم/ساعة في حين طرق بحارتين في دول خليجية سرعتها 100 كلم/ساعة، أيضا حملات التوعية المرورية تتراوح بين الغياب التام والضعف الشديد وهو خلاف ما فعله المرور في حملة حزام الأمان لكون المرور يستهدف الحماية لا الاستثمار.
كذلك يتجلى الطابع الاستثماري بوضع الكاميرات بعقلية الترصد داخل الأنفاق المظلمة وفي حاويات تشبه حاويات الزبالة وفي سيارات متنقلة متخفية وهو بخلاف الهدف الحمائي، كما هو في الدول الأخرى، حيث تضع البلدان الخليجية لوحة تنذر سائقي المركبات على مسافة نصف كيلو تقريبا قبل أي سيارة، وكما هو في كوريا - كما نشرت المواقع الإلكترونية - توضع كاميرات كثيرة وهمية قليلة التكلفة بهدف الحد من السرعة وتوضع كاميرا فلاش قبل الكاميرا الحقيقية لتنبيه السائق الساهي أو السارح فالهدف الحماية وليست الجباية، ويضاف إلى ذلك حجم الوعي الذي يتلقاه مستخرجو رخص القيادة الجدد كما في الدول الخليجية المجاورة أيضا.
ختاماً قيل في ''ساهر'' ما لم يقل مالك في الخمر، ورغم ذلك لا أحد يريد إلغاءه بل نحن جميعا نريد استمراريته وتطويره ليلعب دوره الحمائي لا الاستثماري ليشعر المواطن الملتزم بأنظمة المرور بأن هذا النظام جاء لحمايته لا إيقاعه في مخالفات يدفعها من قوت أبنائه، وكلنا أمل والدولة تنعم بإيرادات مالية كبيرة أن تحول هذه النظام من الطابع الاستثماري المثير للجدل إلى الطابع الخدمي البحت.