ثوابت المناهج الدراسية (1 من 3)
بين فينة وأخرى يطرح على الساحة الإعلامية من قبل بعض الأفراد المتخصصين أو غيرهم موضوع المناهج الدراسية، وهذا أمر حميد بشكل عام، إذ يدل على الاهتمام الذي تحظى به المناهج الدراسية من قبل هؤلاء، لكن من يطرحون رؤاهم بشأن المناهج يطرحونها بصورة تشعر بأن رأيهم هو الرأي السديد والقول الفصل في الموضوع وعلى الجميع تبنيه والأخذ به من قبل الجهات المعنية دون سواه، وقد يكون الرأي مبنياً على نظرية من النظريات أو على خبرة شخصية بحتة، وهذا أمر جميل، لكنه لا يلزم الأخذ به، إذ توجد من النظريات أو الخبرات الفردية ما قد تفوق ما استند إليها هذا الفرد الذي طرح هذه الرؤية. أعرف فرداً يرى أنه لا حاجة إلى دراسة مادة الرياضيات ولا فائدة من ذلك، والسبب أنه وأبناءه يجدون صعوبة فيها ويعانون منها، فهل يعتمد على رأيه رغم أنه متعلم تعليماً عالياً؟
نصت سياسة التعليم في المملكة على أن من أهداف التعليم إيجاد المواطن الصالح، ولعله من المناسب الإشارة إلى أن المواطن الصالح يوجد من خلال معرفة سليمة وذات مستوى مرتفع في حقل من الحقول، وطريقة تفكير علمي ناضج، ومهارات مناسبة، واتجاهات إيجابية نحو المجتمع والآخرين والبيئة، إضافة إلى اكتساب ميول ورغبات نحو هواية أو مهنة من المهن. وفوق هذه كلها تستهدف المناهج إيجاد مواطن مؤمن بربه قوي العقيدة صافيها. ويمكن القول إن المناهج الدراسية في أي مجتمع تستهدف بناء الشخصية المتكاملة القادرة على الإسهام في بناء وطنها وخدمة مجتمعها بكل ما تستطيع.
ومن أجل تحقيق أهداف العملية التعليمية في أي مجتمع لا بد من إيجاد المناهج الدراسية المناسبة والملائمة للأهداف العامة والخاصة وبما يراعي مراحل العمر والنضج والاستعدادات، ويمكن تقسيم مكونات المنهج الدراسي إلى ثلاث مجموعات رئيسة أولاها العلوم الشرعية والإنسانية والاجتماعية، وثانيتها العلوم والرياضيات، وثالثتها اللغة.
قد يسأل فرد: لماذا هذا التقسيم للمنهج الدراسي؟ ولماذا لا يتم التركيز في التعليم العام على مجموعة واحدة من هذه المجموعات الأربع؟ والجواب يتمثل في أنه لا يمكن فعل هذا، إذ إن قواسم مشتركة لا بد من تحقيقها في أبناء أي مجتمع كالدين، واللغة، والقيم، وتعزيز الانتماء للوطن، والمجتمع، وهذه يتم بناؤها في المراحل الأولى من العمر، كما أن العناية بالعلوم والرياضيات في المراحل المبكرة من العمر يتم بهدف اكتشاف الاستعدادات وتنميتها ليختار الفرد فيما بعد من مراحل الدراسة ما يتناسب مع قدراته واستعداداته وميوله ورغباته.
إن السعي لتحقيق المواطن الصالح هدف سام تسعى إليه كل الأمم والمجتمعات والإخفاق فيه قد يؤثر سلباً في المجتمع في ترابط أبنائه، وفي إنتاجياتهم، وفي العلاقة مع العالم الخارجي الذي لا بد منه لاستمرار الحياة، والنماء الذي أراده الله حين استخلف الإنسان على هذه الأرض.
مقياس نجاح المنهج الدراسي يظهر في صور عدة، إذ نلمسه في سلوك الفرد وعلاقاته بربه وبالآخرين، كما نجده في سلوكه مع الجيران، ومع البيئة والمحافظة عليها، ونجده كذلك في احترام الأنظمة والقوانين.
إن نجاح المنهج المدرسي لا يقاس فقط بسلوك الفرد وإنتاجيته، لكن المجتمع بكامله يشكل مقياساً لنجاح العملية التربوية، وذلك من خلال إنتاجيته الفكرية والمعرفية والتصنيعية والتقنية. ولو قدر لنا وقارنا المجتمعات وفق هذا المعيار لوجدنا بوناً شاسعاً بين المجتمعات، حيث نجد شعوباً تنتج وتخترع وتصنع، في حين توجد مجتمعات أخرى لا تجيد سوى استهلاك ما ينتجه الغير، علماً بأن الاستهلاك لا يتم بعلم وبصيرة، وبصورة متحضرة بل يتم بأبشع الصور.