تهيئة بيئة الأعمال في الدول النامية
تشير التقارير الدولية عن بيئة الأعمال في الدول النامية إلى وعورة هذه البيئة في الجانب الأكبر من هذه الدول، سواء أمام المستثمر المحلي أو المستثمر الدولي، وبشكل عام تحتل الدول النامية مراكز متأخرة جدا عالميا - وفقا للتقرير الدولي لأداء الأعمال الذي يصدره البنك الدولي بصورة سنوية حول بيئة الأعمال في دول العالم المختلفة والقواعد التي تحكم هذا القطاع - ويلاحظ من متابعة نتائج تلك التقارير أن بيئة الأعمال في تلك الدول تتصف بطول الإجراءات وتعقدها وطول الوقت اللازم للانتهاء منها واستيفاء المتطلبات البيروقراطية اللازمة للتعامل معها. من ناحية أخرى فإن هناك شكوى مشتركة بين المستثمرين المحليين والدوليين من أن قواعد قطاع الأعمال وتطبيقها يفتقر إلى الشفافية والاتساق، حيث تكون عملية اتخاذ القرارات مشوهة في أغلبية الأحوال بتضارب المصالح، وهو ما يؤدي بدوره إلى انتشار الفساد والممارسات غير العادلة التي تؤثر بصورة سلبية في تنافسية اقتصادات هذه الدول وثقة المستثمرين بتلك الاقتصادات.
مما لا شك فيه أن الدول النامية في حاجة ماسة إلى تحسين بيئة الأعمال بالشكل الذي يساعد على رفع كفاءة قطاعات الأعمال سواء العامة أو الخاصة فيها وتعظيم مساهمتها في النمو، بصفة خاصة تحتاج بيئة الأعمال في تلك الدول إلى تهيئتها بصورة أفضل من، خلال إعادة صياغة القوانين والإجراءات الروتينية التي تهدف إلى تحرير الاقتصاد وزيادة مشاركة القطاع الخاص، سواء المحلي أو الأجنبي في الأنشطة الاقتصادية المختلفة في تلك الدول لرفع درجة كفاءة استغلال الموارد فيها وزيادة قدرة تلك الدول على الوصول إلى الأسواق الخارجية. ذلك أن مواجهة تراجع مستويات الكفاءة الاقتصادية الناشئة عن ارتفاع حجم الحكومة، أو ارتفاع درجة التدخل الحكومي المكثف في الاقتصاد الوطني يقتضي في الجانب المقابل زيادة الدور الذي يلعبه القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي المحلي، وذلك لأغراض تعزيز الكفاءة الاقتصادية ورفع مستويات التنافسية الكلية للاقتصادات الوطنية، وتتعدد السبل التي يمكن من خلالها رفع درجة مشاركة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي في تلك الدول، وذلك إما من خلال تحويل المنشآت العامة إلى القطاع الخاص، حيث أصبح من الضروري في هذا المجال إقرار القوانين التي تسرع من عمليات الخصخصة وتجعل عمليات تحويل المشروعات العامة نحو القطاع الخاص تتم على أساس مؤسسي، وفي غضون فترات زمنية قياسية لتمكين الحكومات في تلك الدولة من التخلص من أعباء تكلفة المشروعات الإنتاجية العامة على ميزانياتها بتحويل هذه المشروعات نحو القطاع الخاص، وإما من خلال رفع درجة مساهمة القطاع الخاص عن طريق فتح السبل أمامه لتأسيس المشروعات الجديدة في مختلف قطاعات النشاط الاقتصادي، أو رفع درجة اعتماد القطاع الحكومي والعام على القطاع الخاص في تأدية الخدمات التي تحتاج إليها أنشطة هذين القطاعين.
كذلك تحتاج الدول النامية إلى توجيه الجهود بصورة أكبر نحو رفع مستويات المساءلة في المؤسسات العامة والخاصة، حيث تفقد تلك الدول موارد كبيرة نتيجة للسياسات أو الممارسات غير المسؤولة من قبل بعض القائمين على المؤسسات العامة والخاصة، ونتيجة لذلك، أصبح كثير من الأفراد في تلك المجتمعات أقل ثقة بقدرة مؤسسات الدولة على حماية مصالحهم ومواردهم، الأمر الذي يؤدي إلى شيوع الإحباط بين المبادرين وأصحاب الأفكار الجديدة في مواجهة حائط الفساد الذي يصطدمون به في مؤسسات تلك الدول. إن تبني الإجراءات اللازمة فيما يتعلق بتقصي المعلومات حول جميع عمليات الجهات الإدارية الحكومية في هذه الدول يعد أمرا ضروريا لتحسين الكفاءة ورفع مستويات الشفافية في عمليات اتخاذ القرارات والتأكد من شفافية الذمة المالية للمسؤولين لحماية مصالح أصحاب الشأن المختلفين في قطاعات الأعمال وصغار المساهمين في أسواق المال.
يتسم مناخ الأعمال أيضا في الجانب الأكبر من الدول النامية بالتدخل المكثف للدولة في آليات عمل السوق، إما بصورة مباشرة وإما بصورة غير مباشرة من خلال القوانين والنظم البيروقراطية التي تعطل عمل السوق الحرة وتحول دون الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، ومن المعلوم أن النظرية الاقتصادية تشير إلى أن الأسواق الحرة الخالية من التدخل الحكومي تساعد على تحقيق الكفاءة الاقتصادية في استغلال الموارد المتاحة للدولة التي تنصرف إلى الكفاءة الفنية أو الإنتاجية، أي قدرة الاقتصاد على إنتاج السلع والخدمات بأدنى تكلفة ممكنة من الموارد المتاحة، والكفاءة التخصيصية التي تنصرف إلى قدرة الاقتصاد على تخصيص الموارد المتاحة لإنتاج توليفة السلع والخدمات التي تحتاج إليها الأسواق والمستهلكون في تلك الدول. من ناحية أخرى فإن هناك قدرا كبيرا من الكتابات الاقتصادية التي تشير إلى أن التدخل الحكومي في الأسواق يعد ضارا إلى حد كبير باعتبارات الكفاءة في استغلال الموارد وتخفيض تنافسية الدول في مواجهة الدول الأخرى. لذلك يعد تحرير الأسواق من خلال اتخاذ الإجراءات الضرورية لتقليل التدخل الحكومي في عملية تحديد الأسعار أمرا ضروريا لتسهيل انتقال الدولة نحو اقتصاد يعتمد بصفة أساسية على آليات السوق لاستغلال الموارد بصورة أفضل.
تعتبر الممارسات الإدارية العلمية والاستراتيجيات الجيدة للشركات من المدخلات الأساسية لرفع مستويات تنافسية الدول، كما أن رفع درجة ثقة الأفراد بقدرة قطاع الأعمال وتنافسيته، يتطلب اتخاذ الإجراءات الضرورية لتحسين مستويات مسؤولية إدارات الشركات ورفع مستويات المساءلة والشفافية في الوقت ذاته في تلك الشركات، ولا شك أن تحقيق ذلك يتطلب ضرورة زيادة مستوى الرقابة على الأنشطة الإدارية، وتطبيق قواعد مسؤولية إدارة الشركات، وضمان وجود معايير شفافة وموضوعية لشغل المناصب التنفيذية العليا في الشركات، خصوصا المساهمة منها، بحيث تكون مبنية بصفة أساسية على المؤهلات المناسبة والمهارة، وليس على أساس العلاقات أو المصالح أو درجة الإخلاص للنظام، أو الانتماء إلى أسرة معينة، إلى آخر هذه القائمة من المعايير غير الموضوعية التي تنتشر في الدول النامية وتؤثر بصورة كبيرة في كفاءة إدارات الشركات فيها.
إن المتتبع لقوانين حماية الملكية الفكرية يلاحظ أن قوانين الدول النامية هي أقل القوانين حماية لهذه الحقوق، ومن المعلوم أن حماية حقوق الملكية الفكرية تلعب دورا أساسيا في تأسيس صناعات محلية مبنية على الابتكار، ولتحسين مناخ الأعمال تحتاج الدول النامية إلى العمل على تعديل القوانين ذات الصلة، أو إصدار قوانين جديدة لحماية حقوق الملكية الفكرية، وفي الوقت ذاته وضع الآليات اللازمة لضمان التأكد من سلامة تطبيق هذه القوانين من الناحية العملية، وهو ما يتطلب ضرورة أن تقوم السلطات المختصة في هذه الدول باتخاذ الخطوات الضرورية لتشديد تطبيق القوانين ذات الصلة بحقوق الملكية الفكرية، وخلق وعي عام حول أهمية حماية الحقوق الفكرية في الاقتصاد الوطني، وتأسيس جهات خاصة تشرف على تطبيق هذه القوانين حفاظا على تلك الحقوق والتأكيد على السمعة الجيدة لهذه الدول في هذا المجال، حيث إنه في كثير من الأحيان يحتاج التدفق الفعال للاستثمار الأجنبي إلى التأكد من توافر إطار قانوني فعال لحماية الملكية الفكرية.
وأخيرا غالبا ما يتصف مناخ الأعمال في الدول النامية بارتفاع درجة الاحتكار في الأسواق، سواء من جانب الدولة أو من جانب مؤسسات الأعمال الخاصة. لذلك لا بد من التأكد من أن الإطار القانوني لبيئة الأعمال في تلك الدول يضمن حماية المنافسة الحرة في الأسواق ويشجع عليها، ليس فقط ذلك، إنما لا بد من التأكد من أن التطبيق العملي للقوانين والقواعد التي تمنع الاحتكار وحماية الأسواق والمستهلك من القوى الاحتكارية التي يمكن أن تضر به يتمتع بالقوة والصرامة المناسبة، للحيلولة دون تركز الأسواق وسيطرة مجموعات محددة للأعمال على الأسواق في الدولة، ومن المعلوم أن تنامي القوى الاحتكارية في الأسواق يتسبب عنه كثير من الآثار السلبية على السوق والمستهلك وعلى عملية الاستخدام الأكفأ للموارد في المجتمع، ولذلك تحتاج حكومات الدول النامية إلى التطبيق الفعال لقوانين منع الاحتكار لضمان حماية المنافسة في الأسواق وحماية المستهلك من الآثار الضارة التي تترتب على سيطرة القوى الاحتكارية على السوق.
إن تهيئة بيئة الأعمال وضمان مناخ جيد لها في الدول النامية يتطلب جهدا تشريعيا كبيرا وتعاونا واضحا بين الحكومة والمؤسسات المختلفة من أجل سن القوانين المناسبة لخلق بيئة أعمال كفؤة وتنافسية وخالية من الفساد، بحيث تضمن حسن استخدام موارد هذه الدول وإطلاق قوى المنافسة فيها لترتفع قدرتها على الابتكار والإبداع واختراق أسواق الدول الأخرى.