نحو قطاع صناعي فاعل في دول مجلس التعاون: الحماية
هناك شكوى مستمرة بين أصحاب الصناعات في دول مجلس التعاون من أن دولهم لا تحمي صناعاتها الوطنية من المنافسة الأجنبية كما يجب، وأن السوق المحلية تتعرض بصورة مستمرة لحالات إغراق أو عدم التزام بالمواصفات أو غير ذلك من الممارسات التجارية الضارة من جانب الصناعات الأجنبية، سواء على أيدي الوكلاء المحليين أو المصدرين الأجانب، وهو ما يضع الصناعات الوطنية في وضع تنافسي أسوأ، حيث يجد المنتج الصناعي الوطني نفسه في وضع غير متكافئ مع المنتجات التي يتم استيرادها من الخارج في ظل غياب استراتيجيات واضحة للنهوض بالقطاع الصناعي الوطني، بل إنه يبدو من الواضح أن هناك عدم وعي بأهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه القطاع الصناعي في نهضة دول المجلس ونموها، على النحو الذي تم تفصيله في المقال السابق من هذه السلسلة.
يقصد بالحماية إحاطة الصناعات المحلية وحمايتها بسياج من الإجراءات الحمائية؛ سواء الجمركية، أي بفرض ضرائب أعلى على المنتجات الصناعية المنافسة لها والمستوردة من الخارج، أو غير الجمركية، مثل فرض قيود كمية في صورة حد أقصى على الكميات التي يمكن استيرادها من المنتجات الصناعية المنافسة للصناعات الوطنية، وهو ما يطلق عليه نظام الحصص، أو التشدد في الإجراءات والمستندات اللازمة لاستيراد السلع ورفع تكلفتها، وذلك كي تتمكن المنتجات الصناعية المحلية من منافسة المنتجات المستوردة من الخارج.
لقد كان الاقتصادي الألماني فردريك ليست، صاحب حجة حماية الصناعة المحلية عندما تحدث عن ضرورة حماية الصناعات الوليدة Infant Industries في ألمانيا من منافسة المنتجات البريطانية في القرن التاسع عشر، وأخذت الكثير من دول العالم النامي بهذه النصيحة لحماية صناعاتها الوطنية، فكانت النتيجة أن خلقت تلك السياسات سياجا حمائيا حول الصناعة المحلية، والتي حولت هذه الصناعات إلى محتكر للسوق نتيجة هذه القيود، فترتب على ذلك انهماك الصناعات المحلية في استيفاء احتياجات الأسواق المحلية دون أن تلتفت إلى تطوير قدراتها التنافسية في مجال البحث والتطوير كي تبتكر حتى تحسن من مواصفات السلع التي تنتجها وتخفض من تكلفتها فتكون قادرة على المنافسة، وهي الحجة الأساسية للحماية، وقد سقط معظم الصناعات في الدول النامية التي تمت حمايتها تجاريا من دون أجل زمني محدد في هذا الفخ.
ليس المقصود بالحماية هنا إذن الحماية التجارية في صورة القيود الجمركية أو غير الجمركية على السلع الصناعية المنافسة، بالعكس.. إن منافسة الصناعة الأجنبية مع الصناعة المحلية أمر مفيد جدا، لأنها تدفع بالمصنعين المحليين نحو بذل مزيد من الجهود لتدعيم مراكزهم التنافسية في الأسواق المحلية في مواجهة الصناعات المنافسة، وأيضا مع اكتساب المزيد من القدرات التنافسية يمكنهم التوجه نحو التصدير بعد ذلك، لكن المقصود بالحماية هنا هو حماية الصناعة المحلية من الممارسات التجارية الضارة التي يمكن أن تمارسها الصناعات الأجنبية، وتنظيم المنافسة وجعلها منافسة شريفة ومفيدة في الوقت ذاته للصناعات الوطنية.
المأزق الأساسي الذي يجد المصنع الخليجي نفسه فيه هو أن السوق الخليجية مفتوحة على مصراعيها، ومثل هذا الهيكل للسوق يكون مملوءا بالثغرات التي تمكن المصدر الأجنبي أو الوكيل المحلي من استخدام ممارسات يمكن أن تؤدي إلى إجهاض الصناعات الوطنية، إما عن قصد، أو من دون قصد. خذ على سبيل المثال مشكلة الإغراق التي يشير إليها المصنعون في دول المجلس مرارا وتكرارا.
الإغراق هو قيام المنتج الأجنبي بتسعير السلع التي يقوم بإنتاجها بحيث يبيع السلعة بسعر أرخص في السوق الأجنبية وبسعر أعلى في السوق المحلية، من دون أن تكون هذه الفروقات السعرية راجعة إلى اعتبارات التكلفة. ويستهدف المنتج الأجنبي من سياسات الإغراق إما التخلص من فائض في إنتاجه من دون أن يلجأ إلى خفض أسعار بيع منتجه في سوقه المحلية، أو أن يستهدف إخراج منافسيه من أسواق التصدير الخارجية، وكلا الهدفين مضر بالمصنع المحلي، لذلك ينظر دائما إلى الإغراق على أنه يمثل ممارسة تجارية غير عادلة، لأنه يستند إلى تسعير غير عادل للسلعة.
ليس فقط ذلك، لكن الإغراق أمر محظور أيضا في القوانين التجارية في العالم، وتعتبره منظمة التجارة العالمية ممارسة تجارية غير عادلة، ويمكن في حالة إثبات حدوث الإغراق، اتخاذ إجراءات انتقامية ضد الدولة أو المصدر الذي يمارس الإغراق. لمثل هذه الممارسات الضارة بالصناعة المحلية تحرص دول العالم التي تحمي صناعاتها على أن تقف لها بالمرصاد، وتتخذ الإجراءات الكفيلة بمعاقبة من يمارسها والتي تصل في بعض الأحوال إلى دفع تعويضات عن الأضرار التي حدثت للصناعة المحلية. دول مجلس التعاون – مع الأسف الشديد - ليس لديها مراكز متخصصة تراقب وترصد حالات الإغراق التي تتم في أسواقها، وليس لديها خبراء للتدقيق في مثل هذه المخالفات لاتخاذ ما يلزم من إجراءات رادعة لحماية الصناعة الوطنية إذا ثبت حدوث الإغراق. فعلى الرغم من التعريف المبسط للإغراق إلا أن عمليات إثبات حدوثه وتقييم الأضرار التي تنشأ عنه مسألة ليست سهلة وتحتاج إلى خبراء ذوي قدرات فنية وقانونية مرتفعة.
على سبيل المثال تعرضت السعودية لاتهام بإغراق السوق الصينية والسوق الهندية بمنتجات البتروكيماويات، ما حدث هو أن خبراء الإغراق في الصين والهند، بناء على شكاوى من الشركات المحلية، استطاعوا إثبات حالة أمام الحكومة، ثم كسبت المملكة هذه القضايا لاحقا، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل لا تتعرض أسواق المملكة لحالات إغراق من المنتجات الصينية والهندية؟ ما يحدث هو أنه على الرغم من أن المنتج المحلي يشتكي من حدوث ذلك، إلا أنه لا يجد من يساعده على القيام بإجراء مماثل لإثبات حالات الإغراق التي تمارس ضد المنتجات الصناعية المحلية.
المأزق الثاني الذي يواجهه المنتج الصناعي في دول مجلس التعاون هو ضعف الالتزام بمعايير المواصفات والجودة عند استيراد السلع من الخارج، بحيث يتمكن المصدرون أو الوكلاء المحليون من استيراد المنتجات منخفضة الجودة وغير مستوفية المواصفات، ذلك أن السلع المستوردة لا تخضع لمعايير صارمة حول جودة مواصفاتها، بينما لا تستطيع المنتجات الوطنية الملتزمة بالمواصفات وتستوفي معايير الجودة أن تنافسها بهذه الصورة. عندما تواجه الصناعات المحلية منتجا مستوردا منخفض المواصفات، لكنه في الوقت ذاته منخفض السعر بصورة كبيرة، فإن الطلب المحلي سينصرف تلقائيا إلى السلع المستوردة منخفضة السعر، وهو ما يؤثر سلبا في المنتج المحلي الملتزم بالمواصفات، وهو بالضبط ما يسعى إليه المصدر أو الوكيل المحلي.
إن حماية الصناعة الخليجية تحتاج إلى تطوير عمليات الهيئة الخليجية للمواصفات والمقاييس، بحيث تهتم بصورة أكبر بمواصفات ومقاييس السلع المستوردة من الخارج ومطابقتها لشروط الجودة المعتمدة في دول المجلس كافة لضمان توحيد مقاييس الجودة والمواصفات لتطبق على جميع الواردات من الخارج بغض النظر عن الوجهة النهائية لهذه الواردات. إن تطوير أعمال الهيئة بحيث تقوم بهذه المهمة بكفاءة وفاعلية سيساعد على حماية الصناعة المحلية في دول مجلس التعاون من المنتجات الصناعية المستوردة وغير المستوفاة لشروط الجودة أو غيرها من الشروط والمقاييس، وبما يوقف تدفقات السلع الصناعية رخيصة الثمن ورديئة المواصفات في الوقت ذاته، والضارة بالصناعات الوطنية.
في بعض الأحيان تأخذ الممارسات التجارية الضارة شكلا ممنهجا وتمارسه الدول المصدرة على نطاق واسع، على سبيل المثال لقد حرصت دول العالم الصناعي بعد الأزمة المالية العالمية على خفض قيمة عملاتها من خلال تبني معدلات منخفضة للصرف وذلك لإعطاء ميزة تنافسية للصناعات الوطنية في مقابل الصناعات الأجنبية في أسواقها المحلية، وفي الوقت ذاته تمكين صادراتها من الصناعة الوطنية من الحصول على ميزة تكلفة تنافسية تمكنها من غزو أسواق الدول الأخرى، وهكذا نجد أنه في الوقت الذي تحرص فيه دول العالم على تعزيز المزايا التنافسية لصناعاتها الوطنية، فإن أسواق دول مجلس التعاون تظل مفتوحة على مصراعيها لتتحمل الصناعة المحلية نتائج هذه المنافسة غير المتكافئة التي تفرضها عليها مثل هذه الممارسات الضارة، ومما لا شك فيه أن مثل هذه الممارسات تتطلب مفاوضا تجاريا خليجيا يفاوض باسم دول المجلس كافة، يحمل قضايا الدول الأعضاء بالكامل إلى الأطراف التجارية الخارجية.
باختصار، إن إنشاء جهاز لحماية الصناعات الوطنية في دول المجلس من الممارسات التجارية الضارة، التي يمكن أن تؤثر سلبا في أداء القطاع الصناعي وتجعل المنتجات الصناعية الوطنية في موقف تنافسي أسوأ حيال هذه الممارسات، يعد أحد المتطلبات الأساسية لنجاح إنشاء قطاع صناعي كفء وفاعل في دول المجلس.