كتاب الأعمدة في الصحافة.. إضافة أم عبء على الثقافة؟
هم يستطيعون انتقاد الجميع وأحيانا السخرية من محيطاتهم الاجتماعية، ربما ينقلب الوضع في هذا التحقيق ليكونوا هم لأول مرة عرضة للنقد من خلال تجاربهم الكتابية التي ترصها يوميا آلات الطباعة أمام أعين المتلقين.
يبدو دورهم جليا في التأثير في الثقافة في مجتمعاتهم، لكنه دور جدلي إزاء قدرتهم على تطوير مجتمعاتهم وخلق مساحة أدبية جميلة لدى المتلقي، تنمي ذائقته وترفع مستوى وعيه، إنهم كتاب الأعمدة في الصحافة الورقية حيث توصف موادهم عند عدد من المثقفين بالكثير من الغث والقليل من السمين، فيما يرى آخرون أن لا دور بارزا لكتاب الأعمدة في مجالي الأدب والثقافة لا بالسلب ولا بالإيجاب وهم المشغولون على أكثرهم بهموم الكرة وملاحقة المشاهير ومتابعة رضا الجمهور، ولو على حساب المهنية والمصداقية.
نحاول من خلال هذا التحقيق استنطاق بعض التجارب الشاخصة لكتاب أعمدة في الصحف السعودية، واستطلاع آراء آخرين لنلقي ضوءا كافيا على تجربة صحافية ممتدة على مدى نحو 50 عاما هو تقريبا عمر الصحافة بالسعودية في شكلها الحديث، وتأثير ذلك في مسار الثقافة الشامل بشقيها اللغوي والأدبي.
كثيرون يرون تأثيرا سلبيا متصاعدا لأعمدة الصحف في سلامة اللغة من الأخطاء اللغوية وضعف المحتوى العلمي، فيما يرى آخرون أن المحتوى الأدبي للمقالة يتطور بشكل لافت، خصوصا في مجال الكتابة الساخرة متخذا أشكالا جديدة لم تعهدها الثقافة المحلية التقليدية التي تفضل عادة الأسلوب الجدي والرصين في عرض المشكلات والقضايا.
يحاول هذا التحقيق -رغم ضيق المساحة- الإضاءة على جوانب عدة من فن كتابة الأعمدة، وعلى أهم المآخذ التي يرصدها المثقف السعودي التقليدي، لما هو سائد في الصحافة السعودية، إلا أن الإضاءة بشكل أكبر وأوضح وأكثر دقة على جميع الجوانب تتطلب صفحات أخر، لذا لزم التنويه.
تبدو الكتابة الساخرة الملمح الأبرز لكتاب الأعمدة في المشهد الثقافي السعودي في الفترة الأخيرة، إذ برزت أسماء اتخذت هذا اللون مفضلا للتعبير عن قضاياها بشكل استقطب إليها جمهور القراء، ومنع عنها في الوقت ذاته مقص الرقيب الماثل أمام الموضوعات الشائكة.
بعض كتاب الأعمدة اتخذوا السخرية بابا للدخول إلى قلوب متابعيهم وقبل ذلك لموضوعات قضاياهم، وفي الوقت الذي حصد عدد قليل منهم حب الكثيرين لقاء قدرة تعبيرية وأدبية رفيعة في انتقاء الكلمات واقتناص الأفكار، لاقى عدد آخر منهم صدود المتلقي، وإعراض المثقف عن الهبوط بمستوى الصحافة المقروءة إلى أحاديث المقاهي ومماحكات الشبان في الطرقات في التعاطي مع القضايا الجدية وإلباسها ثياب الشخصنة، لتغدو حروبا صغيرة تتعلق بالأشخاص بدلا من أن تكون نقاشا في الأفكار يرتفع به منسوب الثقافة -وهو ما لم يحصل حتى الآن- وفقا لعبد العزيز الردادي المتابع للصحافة الورقية في العقدين الماضيين.
يشير الردادي -وهو مشرف سابق لمنتدى ساخر الإلكتروني- إلى أن الثقافة لا تعول كثيرا على كتاب الأعمدة في رفع مستوى وجودها عند جمهور عريض من المتابعين، لأن الكثير من الذين يكتبون، خصوصا في مجال السخرية هم في حاجة أصلا إلى رفع مستوى ثقافته فيما يطرح ويناقش من موضوعات، وأن يدرك أن للسخرية أدوات لا تتوافر عند كثير من الكتاب الذين اقتحموها بشكل مخل لأبسط أبجدياتها، وهو ما لا يفعله مدونون مبتدئون يلاقون في المنتديات المتخصصة عشرات الانتقادات حتى تعتدل أطروحاتهم أو يتركوا هذا الحقل.
يلفت الردادي إلى زوايا دولية تعتمد الكتابة الساخرة التي يتوالى على الكتابة فيها كتاب رائعون يجيدون فن السخرية حتى وإن اختلفنا معهم في توجهاتهم الثقافية، إلا أنه يبدو كم كان يمثلنا ثقافيا كسعوديين في هذه الزاوية الثقافية الخاصة بالسخرية، يبدو كما لو كان يسخر من ذاته وأسلوبه الكتابي ومن مجتمعه السعودي بشكل عام بأسلوب يبعث على الإزعاج وليس له علاقة بفن السخرية ولا الأدب ولا الثقافة.
#2#
وهنا يشير مثقفون آخرون إلى أن الإشكالية تكمن في عدم القدرة على قياس مستوى الثقافة، فضلا عن قياس منسوبها وتدفقها كمطر منهمر على أراضي مجتمعاتها، وهو ما يفوت فرصة الخروج برأي واحد تجاه كتاب الأعمدة وأثرهم الثقافي والأدبي على صعيد مجتمعاتهم، وفقا للإعلامي الدكتور عبد العزيز قاسم الذي يشير إلى ارتفاع القدرة النقدية عند المتلقي ليعرف الغث من السمين، وهو ما يصعّب مهمة كتاب الأعمدة في العصر الحالي، خصوصا أولئك الذين يتدثرون بعباءة السخرية، إذ سرعان ما يختطفها متابع غير متخصص في مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر الصحف الإلكترونية ليعري صاحبها ويكشف له عن سوئه ''التميلح'' دون أدوات حقيقية وبأساليب معتبرة تحترم عقول القراء وقيمهم التي يؤمنون فيها، لكنه يشير إلى نجاح تجارب سعودية في هذا الحقل، وإن لم تكن بذات حجم التجربة على المستوى العربي لكتاب من أمثال اللبناني جهاد الخازن، والمصري أحمد رجب.
ويعيب الكثيرون على كتاب الأعمدة نهج بعضهم إلى القصص المفتعلة والأخبار غير الموثوقة لبناء استنتاجات منها تذهب في اتجاهات يريدها هذا الكاتب ضد جهة ما أو شخصية معتبرة، وهو أسلوب يشبهه البعض بأسلوب ثقافة ''الوات ساب'' حيث تنشر القصص دون تمحيص، والأخبار دون مصدر موثوق.
لا بأس هنا من الإشارة إلى نماذج ناجحة على مستوى الكتابة الساخرة صارت مقولاتها المختصرة على ألسنة الكثيرين وعناوين لتفاعلاتهم الكتابية والاجتماعية، إذ عمد هذا الصنف النادر من الكتاب إلى المقولات البديعة والمختصرة الذاهبة إلى القيم العليا المتفق عليها عند الأمم والشعوب دون انغماس في ''شخصنة الأمور''، أو شطحة تجاه غريب القول أو ساقط الألفاظ.
#3#
ويشير الكاتب في صحيفة ''المدينة'' عبد الغني القش إلى أن الحديث عن الأثر الثقافي لكتاب الأعمدة يتجاوز التعميم إلى التخصيص، إذ يوجد منهم من أسهم بشكل واضح في البناء الثقافي العام للمجتمع السعودي، وكانوا لبنة أساسية في جداره الاجتماعي، ومنهم من شغل المساحات المتاحة له للتعبير دون طائل، فضلا عن أن يكون قد ساهم في أثر ثقافي ذي بال يبنى عليه النسيج الثقافي للمجتمع، لافتا إلى أن السخرية تبقى الوسيلة المفضلة عند كثير من الكتاب للنفاذ إلى موضوعاتهم، لكن الجدية تبقى دوما وسيلة اتصال فاعلة أيضا مع القراء ''وأقرب إلى احترامهم'' كما يشير كاتب آخر.
غير أن جمهورا عريضا من المتابعين والمتلقين يحتفون بشكل أكبر بالكاتب الساخر كما يحتفلون أكثر بسقطاته، وهو ما يجعل مهمة الكاتب الساخر أكثر خطورة من غيره من الكتاب الذين يتسمون بالجدية، حيث المخاطرة أقل، إلا أن أبا صهيب وهو متابع وناقد للحركة الفنية والثقافية في المملكة يرى في الكتابة الساخرة أكثر قوة وقدرة على التأثير في قطاعات واسعة من الناس الذين يجدونها أقرب لقلوبهم وأكثر التصاقا بأذهانهم.
يبقى واضحا أن السخرية وهي هرم الفنون الكتابية لكتاب الأعمدة في العصر الراهن هي عملية مراهنة على حساب كبير مكشوف، بإمكانها رفع رصيد صاحبها أضعافا مضاعفة، وبإمكانها كذلك جعله صفر اليدين ليبدأ من جديد رحلة الصحافة المكتوبة مع متابعين وقراء عرف مكامن قدراتهم النقدية المتجددة والمؤذنة بالتحديات في العصور المقبلة.