عجائب الحصار الاقتصادي
قلنا سابقا إن أغلب ضحايا سياسات الحصار الاقتصادي في عالم اليوم هم العرب والمسلمون. والممارسة كما الحاجة هي أم الاختراع. ويبدو أن ممارسة سياسة الحصار الاقتصادي وبهذا الشكل المنهجي ضد دول عربية وإسلامية قد منحت الغرب من العلم والمعرفة ما جعله يتفنن في استنباط الاختراعات المرتبطة بالحصار وكيفية تطبيقها على أرض الواقع.
أن يكون العرب والمسلمون ضحايا الحصار الذي تفرضه الدول الغربية، فهذا في نظري كارثة بذاتها. لماذا؟ لأن الغرب سلب هذا السلاح من العرب والمسلمين، حيث غدوا اليوم رهنا لسياساته الاقتصادية إلى درجة إخراج ثرواتهم الهائلة ومن ضمنها الموارد الطبيعية ـــ النفط مثلا ــــ من معادلة الحصار. والسياسة معادلات وتوازن.
وتدور حاليا نقاشات مهنية وعلمية في كثير من مراكز البحث هنا عن كيفية تطوير سلاح الحصار ضمن سيناريوهات مختلفة تشمل أغلب الدول العربية ولا سيما النفطية منها. أي ماذا سيحدث لو خرج النفط السعودي من المعادلة؟ المعادلة هنا ليست فقط نشوب حرب أو كارثة طبيعية بل أيضا في حالة إقدام الغرب على فرض حظر على النفط من أي بلد نفطي كان.
الغرب لا يبحث عن الأسباب. الغرب يخترع ويخلق الأسباب. ما يراه سببا لإدامة علاقة اقتصادية وصداقة سياسية أو ما يغض النظر عنه اليوم رغم عدم تطابقه مع ما يراه من توجهات قانونية أو إنسانية هو ذاته قد يصبح العذر لفرض الحصار أو تغير السياسات. وقد لا يصدقني البعض، إلا أنني أقول إن سيناريوهات كهذه تجري دراستها بإمعان ومن قبل أكثر العلماء والباحثين والاستراتيجيين شأنا.
والوضع في الدول العربية والإسلامية ولا سيما الشرق أوسطية منها حساس إلى درجة أن ذكر مثال محدد أو اسم معين قد يثير الشجون والتكهنات ويدخلنا في متاهات الفرز المذهبي والديني والطائفي والفكري والسياسي، الذي لا يعرف أحد في الدنيا استغلاله لصالحه مثل الغرب.
وكمحب للعرب والمسلمين بألوانهم المختلفة أحاول دائما تجنب الغوص في التفاصيل الدقيقة، ولكنني على يقين من أن قرائي الكرام لا بد أن يتأملوا معي الأسباب التي تؤدي إلى أن يكون العرب والمسلمون أغلب الضحايا للحصارات التي يفرضها الغرب.
على من يقع اللوم؟ بالطبع اللوم كله لا يقع على الغرب. العرب والمسلمون يتحملون وزرا كبيرا منه، لأنهم جعلوا من أنفسهم متلقين في السياسة والاقتصاد وليس ملقنين.
وهذا ما جعل الغرب يتفنن في الحصار الذي يستهدفهم، ولا سيما إن كانت بوصلة السياسة موجهة لمصلحة إسرائيل. وهل هناك سياسة غربية شرق أوسطية أو غيرها للغرب لا تضع إسرائيل في مقدمة مصالحها؟
والحصار صار مدرسة أساتذته إسرائيليون يلقنونه للغرب. فكما أن العرب والمسلمين يتصرفون كالمتلقي أمام الملقن الغربي تصبح المعادلة معكوسة عند تعلق الأمر بإسرائيل، حيث تصبح هي الملقنة والغرب المتلقي.
وآخر ابتكارات مدرسة الحصار الإسرائيلية اكتشفته منظمة حقوق إنسان إسرائيلية، تدافع عن الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة أكثر من أي دولة عربية أو إسلامية. إسرائيل تحسب عدد السعرات الحرارية التي يحتاج إليها الإنسان (العربي المسلم في غزة) كي لا يجوع، وعدد السعرات الحرارية حسبتها إسرائيل من ناحية الوزن ورأت أن حمولة 67 شاحنة من الغذاء في اليوم تحتوي على الكمية اللازمة من السعرات الحرارية التي تبعد المجاعة عن قطاع غزة، بينما في الحالات الإنسانية العادية يحتاج مواطنو القطاع إلى 400 شاحنة يوميا.
وهذا ما قاله الإسرائيلي الذي ابتكر هذا الاختراع: ''الفكرة هي أن نلزم الفلسطينيين بتطبيق نظام حمية دون أن نجعلهم يعانون المجاعة''.
فلسفة الحصار الإسرائيلية هذه كشفتها منظمة حقوق إنسان إسرائيلية تدافع عن الفلسطينيين، وكان لها وقع كبير على الإعلام الغربي، ولا سيما على منظمات حقوق الإنسان فيه.
وحتى كتابة هذه السطور لم أقرأ سطرا واحدا عن فلسفة الحصار الرهيبة هذه في الصحافة العربية، ولم أسمع مسؤولا عربيا أو إسلاميا يدينها.