متى نرى هيئة وطنية للجودة الصحية؟
ليس من المعقول أن تكون لدينا هيئة للمواصفات والمقاييس تهتم بوضع مواصفات الأجهزة وغيرها بينما لا توجد هيئة تضع المقاييس الرئيسة لخدمة صحة المواطن، وهي الغاية من وضع كل النظم والتشريعات! عندما سألني بعض الإخوة الزملاء الإعلاميين عن كيفية التعامل مع الأخطاء الطبية، كان جوابي أن إيجاد هيئة وطنية للجودة الصحية هي البداية الصحيحة لرفع الجودة الصحية وتقليل الأخطاء الطبية، فالتعامل مع الأخطاء الطبية يجب أن يكون مع السبب لا العرض للمشكلة، والسبب الرئيسي في اعتقادي هو غياب المواصفات الصحية الشاملة.
وذكرت في أكثر من مناسبة أن نظامنا الصحي لا يزال في البدايات، كما أنه لا توجد معايير علمية تلزم بها مستشفيات القطاع الخاص أو الحكومي باتباعها، ما يصعب عملية المراقبة عمليا. إضافة إلى ذلك فإن المجلس المركزي لاعتماد المنشأة الصحية لا يزال ضعيفا بسبب ارتباطه الإداري بوزارة الصحة. فلو أصبح المجلس المركزي لاعتماد المنشأة الصحية محايدا كهيئة الغذاء والدواء لكان دور المجلس أكبر وأكثر حيادية مما هو عليه الآن. من الصعب توقع دور حقيقي للمجلس ومستشفيات وزارة الصحة هي أكثر المستشفيات تحتاج إلى رقابة. ولعل عدم استقلالية المجلس ماليا وإداريا ظل عائقا حقيقيا في أن يسهم هذا المجلس في رفع الجودة الصحية، إضافة إلى أن دور المجلس الحالي استشاري لا تنفيذي. لذا لا بد أن تكون لدينا هيئة وطنية للجودة الصحية تحل مكان المجلس المركزي للخدمات الصحية بحيث تكون هيئة مستقلة إداريا وماليا عن وزارة الصحة، لأنه ليس من المعقول أن يعمل المجلس حاليا لرفع مستوى الجودة الصحية في مستشفيات القطاع الخاص بينما لا تزال بعض مستشفيات وزارة الصحة دون المستوى المأمول. كما أن الاستقلالية المالية تمكن الهيئة مستقبلا بأن تكون قراراتها بعيدة عن أي تأثيرات أخرى، فرفع مستوى الجودة في إطار استراتيجي يتم عبر وجود جهة تهتم بمستوى الجودة الصحية في منشآتنا الصحية سواء كانت خاصة أم حكومية.
خادم الحرمين الشريفين ذكر مرارا أنه ''لا شيء يغلى على صحة المواطن''، وهي كلمة لخادم الحرمين الشريفين اقتبستها وزرة الصحة لتضعها شعارا لخطتها الاستراتيجية الحالية، لذا فإنشاء هيئة وطنية للصحة مطلب وطني مهم من أجل رفع الجودة الصحية. كما أن وجود هيئة وطنية مستقلة يساعد على تخفيف ما نسمعه من معاناة شبه يومية عبر وسائل الإعلام المختلفة من أخطاء طبية. هذه الأخطاء تجبر وزارة الصحة - مشكورة ـ على إغلاق مؤقت لبعض المراكز الصحية المخالفة للاشتراطات الصحية، ففي ظل غياب مواصفات صحية شاملة ومعتمدة فإن هذه المعاناة اليومية ستستمر إن لم توضع لها حلول استراتيجية صحيحة.
نقطة أخرى جديرة بالاهتمام أن النظرة للجودة الصحية لا تقتصر فقط في إسهامها في تقليل الأخطاء الطبية من منظور إكلينيكي بحت - على رغم أهميته - لكن يجب النظر للجودة الصحية بمفهومها الشمولي، لأن الجودة إطار شامل مترابط يشمل الجودة في الموارد المالية والبشرية والتشغيلية والفنية للمنشآت الصحية. بمعنى آخر هل الجودة لتلك المنشآت مقارنة بالنتائج أو المخرجات التي تم تحقيقها متوازنة أم لا؟ هذا السؤال يحتاج إلى إجابة علمية مبنية على ما يعرف بقياس cost/effective، وهذا لا يتم إلا من خلال إيجاد هيئة وطنية للمنشآت الصحية، كما يمكن للهيئة في حال وجودها أن تساعد وزارة المالية للاعتمادات المالية للمنشآت الصحية، فواقع اعتماد الميزانيات السنوية من قبل وزارة المالية ما زال بدائيا في صورته line item budget، فهل تتفاوض وزارة المالية مع الجهات الصحية المختلفة وفق المدخلات لا المخرجات outcomes بحكم غياب المتخصصين في طرق اعتماد الميزانيات الصحية التي تتميز بارتفاع تكاليفها التشغيلية؟
ختاما أرجو ألا يفهم من دعوتي أن يختزل دور الهيئة في معاقبة الجهات الصحية المقصرة في الالتزام بالجودة الصحية، بل أن تسهم الهيئة في رفع مستوى الجودة في إطارها الشمولي وتقديم المساعدة المطلوبة لتلك الجهات من أجل رفع جودتها الصحية وتقديم ما يلزم من تدريب وغيره من أجل تحقيق هدف مشترك للجميع وهو تقييم خدمة صحية بجودة عالية، لذا فالرقابة جزء من هدف الهيئة وليس الهدف الرئيس لها.
فهل نرى هيئة وطنية للجودة الصحية قريبا؟ أرجو ذلك - إن شاء الله.