الدولة والمجتمع.. حدود المسؤولية في الأمراض المزمنة

منذ قرابة العام وحراك قطاعات الدولة المختلفة مع وزارة الصحة منصب في مواجهة الأمراض غير السارية ووضع المؤشرات الكفيلة بالوقاية منها والسيطرة عليها. لقد تم الالتفاف حول موضوع واحد لتحقيق التعاون الكلي في مسألة أقلقت العالم كله عبر عقود طويلة زادت حدتها بتغير أو تطور أنماط الحياة التي نعيشها من أقصى الأرض إلى أدناها. لقد داهمت أمراض القلب والرئة والأمراض السرطانية، والتهابات المفاصل ومرض السكري‬ والاعتلالات الصحية المختلفة العضوية منها والنفسية، أبدان المجتمعات البشرية وتغلغلت عادات مثل التدخين والتغذية غير الصحية وضعف النشاط البدني وتعاطي الكحول في برنامج بعض الأفراد اليومي، ما رفع تعداد الوفيات إلى مستوى تطلب تدخل الدول لوقف قيادة المجتمعات أنفسها للتهلكة. لذلك فقد اتفق الجميع ابتداء من منظمة الصحة العالمية وانتهاء بوزارة الصحة في كل قطر: إن هذه الأمراض تمثل السبب الرئيس للوفيات حيث تمثل وفياتها من مجمل الوفيات ما نسبته 63 في المائة على مستوى العالم. من خلال تقرير المنظمة الصادر في عام 2010، الذي ركز على هذا الموضوع الهام، تم عقد أول مؤتمر وزاري عالمي حول أنماط الحياة الصحية ومكافحة الأمراض المزمنة في موسكو العام الماضي 2011. كان ذلك التجمع بمثابة حملة خصصت للوقاية من هذه الأمراض قبل استفحالها وتحولها إلى كارثة صحية عالمية بناء على التقارير القطرية التي أوضحت بالتحليل تفاقم حجم المشكلة. لقد تم التأكيد على أن الحل الوحيد أمام نجاح الخطط الوطنية هو تضافر الجهود بقيام كل أجهزة الدولة بدورها كاملا وبتكامل مع باقي الأجهزة لإيصال رسالة أو تقديم خدمة مباشرة أو تسهيل مهمة في هذا المسار. لقد بدأت الدول التي استجابت مجتمعاتها ووعت لأهمية الموضوع بتسجيل الفارق ووضح أن تفهم المجتمع كان مفتاحا لنجاح كل الجهود. بتسليط الضوء على منطقة الشرق الأوسط والدول العربية وجد أن هناك حاجة لعمل مكثف من قبل قطاعات الدول نفسها لرفع المستوى الثقافي لمجتمعاتها لتعينها على مواجهة تزايد أعداد الوفيات وتدهور الحالة الصحية لأفراد المجتمع. هذا جعل إقامة مؤتمر في الشرق الأوسط يسلط فيه المجتمعون من ذوي العلم والخبرة في العالم الضوء على هذه القضية، مسألة أصبحت حتمية ولا بد أن توضع الاستراتيجيات لمواجهتها، لتخفيف الأعباء التي أصبحت تثقل كاهل المجتمعات في المنطقة.‬‬‬
لقد أخذت المملكة العربية السعودية من موقعها المحوري في المنطقة وتقدم وضعها الصحي حسب المؤشرات، التي سجلت وأكدت ذلك التقارير المتتالية، على عاتقها استضافة المؤتمر والتعامل مع الظاهرة بشكل منطقي وبمنهجية علمية. لقد كان الإعداد لهذا المؤتمر يسير على قدم وساق منذ عام تقريبا حتى افتتحت أعماله برعاية كريمة من لدن خادم الحرمين الشريفين، يحفظه الله، في الأسبوع الماضي تحت مسمى "مؤتمر أنماط الحياة الصحية والأمراض غير السارية في العالم العربي والشرق الأوسط". انتهى الآن هذا المؤتمر بعد شغف كبير وأنظار أمم المنطقة تنتظر بفارغ الصبر خروج توصيات قابلة للتنفيذ بعد تجمع كبير ضم أقطاب التخصص من الأكاديميين والمسؤولين محليا في كل قطر وعلى مستوى العالم من القياديين والمتخصصين في هذا المجال.
إن الحديث الآن عن الدراسات والأبحاث العلمية التي ألقيت واستعرضت وورش العمل التي أقيمت خلال أيام المؤتمر يمكن أن تؤلف بها مجلدات في وضع أعباء المراضة على المستوى الدولي وبالذات عربيا وشرق أوسطيا. هذا لأن كل محاضرة كانت بمثابة الشعلة التي تضيء أحد مسارات هذا الموضوع المتشعب حول المراضة وأعبائها في المنطقة. أما من ناحية التوصيات والمقترحات التي توصل لها المجتمعون وهي ما تهمنا، فإن تعدادها فقط يشكل بداية المهمة للقطاعات الحكومية والخاصة، ويلقي بثقله على أفراد المجتمع للتجاوب وتحقيق ما يخصهم ويقع من ضمن مسؤولياتهم.
لقد ظهر جليا الآن أن موضوع استقصاء الوضع الصحي وحجم المراضة وأعبائها عبارة عن جملة من الأعباء في حد ذاتها على قطاعات الدولة. بالإضافة إلى ذلك وعي وتفهم وتعاون كبير من قبل المجتمع نفسه مع هذه القطاعات. من المؤكد أننا في مملكتنا الحبيبة سنسعى إلى بذل الجهود محليا ثم التفكير لاحقا بباقي المنطقة، لأن فرضية اجتماع المعنيين في عدة دول في مكان واحد على قلب واحد في هذا العصر مسألة ليست بالهينة وتعني أيضا التدخل لبناء خريطة عبء المراضة على مستوى عام، ولكن حري بنا أولا أن تتخذ كل دولة كافة الوسائل داخليا للوصول إلى بر الأمان.
في الواقع بتعداد وتحديد حجم المعوقات التي يمكن أن تصادفنا في السنوات القادمة على أقل تقدير يمكن أن نتصور بأن الدعم المالي ورفع المستوى الثقافي لأفراد المجتمع، ووضوح وتوجيه السياسات والإجراءات نحو الوقاية والعلاج سيجعلنا نتخطى الحواجز التي ظهرت أنها عوائق وعراقيل لا يمكن إنكارها في مجتمعات منطقة الشرق الأوسط والدول العربية. فالأول سيخفف كثيرا من أعباء المرحلة، وسيكون الثاني المحفز الأكبر في دفع العملية. أما الثالث فسيكون التفافا حول إيجاد الصيغة التي تمخضت عن تفهم قطاعات الدولة للأدوار، ومن ثم صيغت في استراتيجية حددت فيها السياسات والإجراءات على مستوى الدولة. وللحديث تتمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي