الشباب والفرص الضائعة
على الرغم من أننا محسوبون من أغنى دول العالم من حيث الدخل، ولدينا الكثير من المشاريع الكبيرة التي نصرف عليها بالمليارات مباشرة من دخلنا، إلا أن البطالة في بلادنا تكاد تكون من أعلى النسب في العالم.. هل يُعقل هذا؟ وإذا كان ذلك صحيحاً ومطابقاً للواقع المؤلم.. فأين الخلل؟ لدينا وزارة جُلَّ همها وكامل مسؤولياتها تكاد تنحصر في تسهيل أمور توظيف العاطلين عن العمل من المواطنين، وعلى وجه الخصوص الشباب من الذكور والإناث، كل حسب مؤهلاته ومستوى تعليمه. ومن حسن الصدف، أن منْ تقلدوا منصب وزير العمل خلال السنوات القليلة الماضية هم من خِيرة الرجال وأقدر الوزراء ولا ينقصهم الحماس. ومع ذلك فما زلنا نراوح مكاننا، الأعمال يقوم بها الوافدون وأولادنا لا يزالون يبحثون عن وظائف بأعداد كبيرة. ولا هناك وسيلة من وسائل تهيئة جو التوظيف "التقليدية" إلا وقد ولجته وزارة العمل. وكان آخرها تطبيق نظام "نطاقات"، الذي ربما أنه أسهم نسبياّ في نجاح جهود الوزارة. لكنه لا يفي بالغرض المنشود ولا يُلبي جميع متطلبات التوظيف لأجيال تتابع من الشباب، مع استمرار نمو العمالة الأجنبية.
الأموال التي تُصرف على المشاريع المحلية هي، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مُلك للشعب، حتى لو كانت مملوكة اسميًّا لمواطن أو شركة وطنية، وتقع على عاتق صاحب المال مسؤولية عينية تجاه المواطنين. ويجب ألا تُعطى لإدارة المشروع الحرية المطلقة في استقدام عمالة أجنبية على حساب المواطن العاطل عن العمل من أجل تنمية ثرواتهم لمصالحهم الخاصة، دون أي اعتبار للمصلحة العامة. والأدهى، أن المستثمر الوطني الذي يبني نمو ثروته على استخدامه للعمالة الأجنبية الرخيصة واستبعاد العمالة الوطنية، قد يُدرك أو لا يُدرك، أن عُمَّاله ينعمون باستهلاك جميع المواد المُخفضة والمُعانة من قِبل خزانة الدولة، وأنه المستفيد الأول من ذلك. أي أنه يستحل لنفسه وحده استنزاف موارد رخيصة هي من حقوق أبناء الوطن، لذلك فمن حق المواطن أن تكون له الأولوية في التوظيف في أي مشروع يُقام داخل المملكة.
لكن ذلك يتطلب منا أن نُغيِّر قواعد اللعبة، وأن نوجد قوانين تحكم العلاقة بين المواطن الذي يبحث عن عمل من أجل كسب العيش الشريف وبين صاحب العمل الذي يتطلع هو الآخر إلى مردود مُجزٍ على استثمار فائض أمواله. وأول خطوة في هذا الاتجاه يجب أن تكون الحد من فوضى إصدار تأشيرات استقدام العمالة الأجنبية لكل مَنْ هب ودب، ودون أي قيود، كما هي الحال اليوم. فصاحب الشركة يحق له استقدام ما شاء، وما عليه إلا مضاعفة طلب عدد التأشيرات التي يود الحصول عليها حتى يحصل على ما يريد. وإذا رغب أي مواطن في فتح محل تجزئة أو ورشة عمل يتقدم بطلب تأشيرات ويحصل على مُبتغاه. وطرف ثالث يقدم مشروعاً وهميًّا ويكسب عدداً كبيراً من التأشيرات التي تأخذ طريقها إلى السوق السوداء. وكلها تجلب إلى بلادنا عمالة رخيصة تأكل خيراتنا وتُقلل فرص عمل أبنائنا، ناهيك عن كونها عالة علينا ومنهكة لاقتصادنا، إلى جانب تأثيرها السلبي في عاداتنا الاجتماعية وطريقة حياتنا. والحل هو تطبيق أنظمة صارمة تتمثل في فرض ضرائب مالية كبيرة على استقدام العمالة التي تستولي على فرص الأعمال الحرفية والمهنية والبيع والشراء لحسابها المتاحة فقط للمواطنين. وحصر أموال هذه الضرائب لمصلحة توطين وتأهيل الشباب السعودي الباحث عن العمل. وإذا كان هناك احتمال لهجرة رأس المال بسبب ضوابط السعودة، فيجب أن يُقابَل ذلك بفرض ضرائب على الأموال المهاجرة لمصلحة تدريب وتأهيل المواطن.
ومن أجل جذب وتشجيع المواطن على العمل، فلا بُدَّ من تحديد الحد الأدنى للأجور، بحيث يتناسب مع مستوى المعيشة في بلادنا، وهو ما تُطبقه جميع الدول، حماية لحقوق المواطنين. ولا ننسى ضرورة تحديد ساعات العمل الأسبوعية بحيث لا تتعدى أربعين ساعة. وأي عمل إضافي تُحسب له قيمته. وعلى صاحب العمل أن يتحمل تكاليف التدريب والتأهيل وتطوير المهارات اللازمة لأداء متطلبات الوظيفة. ونحن نعلم أن لدى أصحاب العمل الكثير من التحفظات على مواظبة الموظف السعودي والحرية التي يتمتع بها من حيث الانتقال من موقع إلى آخر دون سابق إنذار ودون موافقة صاحب العمل. هذه قمة الفوضى، ويجب أن يوضع حد لها، بحيث يكون الانتقال مُنظماً وبموجب شروط مقبولة لدى جميع الأطراف. فبإمكان وزارة العمل أن تتبنى نظاماً إلكترونيًّا يتم من خلاله تسجيل ومراقبة التوظيف باستخدام البطاقة المدنية وسريان عقد العمل بين الموظف وصاحب المنشأة. ولا يسمح بأي حال من الأحوال أن ينتقل الموظف إلى موقع آخر دون موافقة الجهة التي يعمل فيها أو بعد انتهاء مدة العقد. وإذا تغيَّب موظف عن العمل دون عذر مقبول، يُحرَم من التوظيف في أي موقع آخر حتى يفي بالتزاماته السابقة. ويجب ألا يكون هناك أي مجال للغش أو التحايل أو المحاباة، بل انضباط مُتقن كما هي الحال في أكثر بلدان العالم المتحضر.
والوضع الحالي فيه الكثير من الثغرات التي تسمح لصاحب العمل بأن يتهرب من مسؤولية توظيف المواطنين لارتفاع مستوى مرتباتهم وضرورة تدريبهم ولعدم انضباطهم، مقارنة بالعمالة الوافدة. وهو بهذا يجني أرباحه بحرية مطلقة. لذلك نرى ضرورة تقديم المصلحة العامة على الخاصة. فلا يُترك للمستثمر حرية التصرف حسب رغبته ويتجاهل المصلحة العامة، فيُعطى الخيار بين أن تكون الأيدي العاملة وطنية أو يُحرم من الترخيص الذي يسمح له بمزاولة النشاط المطلوب. ونحن نعلم جيداً صعوبة إقرار مثل هذه الأنظمة، بل هي شبه مستحيلة. لكنها مُطبقة في دول كثيرة، وهو الحل الأمثل لدفع الاقتصاد الوطني إلى مزيد من النمو ورفاهية الشعب.