تجنّب شهداء العمل
يمكن تصنيف العاملين في البيئات التنظيمية المختلفة حسب طريقتهم في أداء أعمالهم إلى أصناف رئيسة عدة. صنف حريص على أداء مهامه، منضبط في حضوره وانصرافه، مقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه، مراع للأمانة الموكلة إليه، يؤدي عمله بعقلانية دون مبالغة ودون أن ينعكس أثره في واجباته العائلية وعلاقاته الاجتماعية. صنف آخر على النقيض تماما تراه مستهترا في أداء واجباته الوظيفية، لا يبالي في إنجاز أعماله، ولا يراعى الله ثم ضميره في مورد رزقه ومصدر دخله وقوت أبنائه. صنف ثالث يبالغ في أداء الأعمال والمهام الوظيفية ويعطي وظيفته كل وقته ويتجرد من مسؤولياته الأسرية وواجباته الاجتماعية وكأن ليس له مهمة في حياته سوى عمله ولا يوجد في ذهنه ولا يشغل باله سوى وظيفته وعندما يفارق الوظيفة ويترك الخدمة بتقاعد أو بنحوه يرى العمل أخذ منه أكثر مما أعطاه.
ويعد النمط الأول الوضع المثالي الذي تنشده المنظمات والأفراد والذي يتعين علينا جميعا أن نقتفي أثره وهو المعيار لأداء الأعمال وإنجاز المهام لأنه يوازن بين الإخلاص في العمل وحقوق الفرد والأسرة والمجتمع. أما النمط الثاني فالكل يرفضه وينكر صنيعه ويخشى كل موظف أن يصنف ضمنه وتحارب وجوده كل الأنظمة واللوائح والأعراف والقيم الإنسانية والتنظيمية. أما الثالث فرغم تفضيل بعض القيادات له إلا أنه يعد من النماذج الشاذة الذي يفترض أن يحارب صاحبه كما يحارب المخل في عمله لأنه يبني نفسه ويتقن عمله على حساب أسرته وواجباته الاجتماعية، وهذا يتنافى مع الطبيعة الإنسانية. وهذا النوع لم يتم التركيز عليه كثيرا في أدبيات الأعمال، لذا سأقوم بإلقاء الضوء على أبرز خصائصه وكيفية عمله، ولماذا يفضل القادة مثل هذا النوع ويستميتون في استقطابه رغم سلبياته؟
يطلق على من يبالغون في أداء أعمالهم في أدبيات الأعمال بـ ''شهداء العمل'' ويعرف (توم ماركرت) صاحب كتاب ''لن تنتصر على رئيسك في العمل'' شهداء العمل بأنهم أولئك الذين يعملون عددا كبيرا من الساعات، ويجعلون الناس ومن ضمنهم رؤساؤهم في العمل يعرفون ذلك. والشهداء دائما ما يعملون أثناء عطلاتهم الأسبوعية ويجعلوننا نعرف ذلك كما أنهم يبادرون في حل مشاكل العمل التي تعترضهم بأنفسهم دون مساعدة غيرهم ويجعلوننا نعرف ذلك أيضا. كما أنهم يتعمدون السفر في أوقات غير ملائمة ويختلقون الصعاب ويتحدونها ويجعلوننا نعرف ذلك. كما يتميز هذا الصنف بأنهم يقضون وقتا قصيرا جدا مع أسرهم لأنهم يستمتعون في أداء أعمالهم ويجدون أنفسهم فيها، فالعمل بالنسبة لهم الهواء الذي يتنفسونه، والماء الذي يشربونه، والغذاء الذي يطعمونه، فراحتهم عمل وعملهم راحة.
وشهداء العمل هؤلاء ليسوا بشرا طبيعيين ولا مثاليين، بل مرضى ومعتوهون، وإن كان ينظر إليهم على أنهم النموذج الذي يجب أن يحتذى به، فالقيادات في غالبية المنظمات يهمهم وجود مثل هذا النوع من الموظفين بينهم، بل يجاهدون بكل السبل في استقطابهم، والمحافظة عليهم، والدفاع عنهم، وتزكيتهم، وامتداح جهودهم، وتفانيهم، ويباركون مساعيهم ومنهجهم في العمل. لكن علينا ألا ننخدع بكل هذا، فشهداء العمل وبال على أنفسهم وعالة على أسرهم ونكبة على مجتمعاتهم ويظهر أن هناك خللا في تربيتهم وسلوكياتهم وطريقة تفكيرهم.
تجد بيوتهم قفرا خاليا من مباهج الحياة تحيطه به الكآبة من كل جانب ولا يخلو أحد أفراد أسرهم من معاناة، لأن عائلهم مهووس بأداء مهامه الوظيفية فلا يرى غير عمله ولا يعرف سوى وظيفته. كما أن هذا الصنف من الموظفين لا يخلون هم أنفسهم من أمراض نفسية كالكآبة والانطواء والخوف من الجموع وأخرى عضوية مزمنة كضغط الدم والسكري وتصلب الشرايين وقرحة المعدة. فرغم أنهم يجدون أنفسهم في العمل إلا أنهم يعيشون في توتر متصل لأنهم يرون أنفسهم قد أخلوا كثيرا بواجباتهم الأسرية وعلاقاتهم الاجتماعية ويرون عدم رضى يشعرون به في أعين من حولهم، خصوصا عند عودتهم إلى منازلهم. كما يتصف شهداء العمل بعلاقات اجتماعية محدودة للغاية وعندما يحتم عليهم الأمر المشاركة في مناسبة اجتماعية نراهم يدخلون متسللين ويخرجون متسللين يتحاشون الولوج في أحاديث جانبية حتى لا يضطرهم الأمر إلى تكوين علاقات قد تؤثر في إخلالهم بقدسية الوظيفة.
لكن ماذا يجب على المنظمات فعله إذا ما ابتليت بمثل هذا النوع من الموظفين؟ يجب أن تدرك المنظمات أن ما يطلق عليهم ''شهداء العمل'' من الموظفين هم في الأصل غير طبيعيين ويمكن تصنيفهم ضمن شواذ الموظفين ولو تألقت إنتاجيتهم وزاد حماسهم وتضاعفت جهودهم. لذا ينبغي على المنظمات ألا تمكن مثل هذا النوع من الموظفين من الأعمال القيادية لأنهم قد يتخذون قرارات لا تناسب السواد الأعظم وقد تكون قراراتهم ضد لوائح المنظمة أو قوانين الدولة وقد تتصادم مع العادات والقيم التنظيمية، لذا ينبغي عدم تمكينهم من أي عمل قيادي ولو افترضنا وتمكنوا فأظنهم سيكونون نماذج من القيادات الشاذة التي سبق أن تكلمنا عنها في مقالات سابقة.
وبما أن لديهم استعدادا مفرطا لإنجاز الأعمال التنفيذية ومقدرة هائلة لإنهاء المهام التشغيلية فيمكن أن توكل إليهم الأعمال التي تتطلب مجهودا ذهنيا كبيرا وطاقة جسدية عالية، فهم يشعرون بالغبطة ويتولاهم السرور ويستطربهم الفرح عندما يرون أمامهم مثل هذه الأعمال الجسام. كما ينصح بتجنبهم وقلة مصاحبتهم حتى لا نصاب بالعدوى، فالهوس والمبالغة في بذل الجهد عبارة عن قناعات ومعتقدات حيال النظرة لأداء العمل تصبح بعد فترة عادة وسجية يصعب الخلاص منها.
وقبل كل هذا ينصح المختصون المنظمات أن تتعرف على ''شهداء العمل'' وتقوم بعلاجهم قبل تمكينهم من أعمالهم لأنهم إن تركوا على سجيتهم وارتضوا آليتهم في أداء أعمالهم فسيبنون المنظمات ويهدمون ما بين أيديهم من الأبناء والبنات.