أسواق المنتجات النفطية تدعم أسعار النفط الخام
على الرغم من وجود فائض في إمدادات النفط الخام العالمية، كما أشرنا في المقال السابق، إلا أن أسواق المنتجات النفطية تعكس واقعا مغايرا تماما وبشكل أكثر تحديدا. تشهد أسواق زيت الغاز (المازوت/ وقود الديزل) بعض التشدد قبل بدء موسم الشتاء القادم في نصف الكرة الشمالي، حيث إن مخزونات زيت الغاز منخفضة في جميع المناطق الرئيسة المستهلكة للنفط في العالم. لقد تكاتفت مجموعة من العوامل في أسواق المنتجات معا لاستمرار دعم أسعار زيت الغاز خلال الأشهر المقبلة، هذه العوامل ستشكل أيضا مصدرا لدعم أسواق النفط الخام في الأشهر القادمة كما كانت دائما، على الرغم من استمرار وجود وفرة في إمدادات النفط الخام. إلا أن هذه الحالة في أسواق المنتجات قد لا يكون لها تأثيرات وخيمة على أسواق النفط، ويرجع السبب في ذلك أساسا إلى أن الضعف الحالي في توقعات نمو الاقتصاد العالمي وضعف الطلب، لكن هذا لا يعني أن الأسواق العالمية سوف لا تعاني ضغوطا خلال فصل الشتاء عندما يتزامن ارتفاع الطلب على وقود التدفئة مع متطلبات الاحتياج الطبيعي لوقود الديزل. على الرغم من أن أسواق النفط العالمية جابهت وضعا مماثلا خلال عامي 2007 و2008، إلا أن تداعياتها في الوقت الحالي على أسعار النفط الخام قد لا تكون قوية كما حدث في السابق، ذلك بسبب طاقات المصافي الجديدة، زيادة إمدادات النفوط الخفيفة، وضعف الطلب على النفط.
الولايات المتحدة باعتبارها المصدر الرئيس لتوريد زيت الغاز إلى أمريكا اللاتينية وأوروبا، تقدم الدعم لأسعار زيت التدفئة في بورصة نايمكس، حيث يتم تداوله حاليا بأكثر من 16 دولارا للبرميل الواحد فوق خام بحر الشمال برنت وبأكثر من 34 دولارا للبرميل الواحد فوق خام غرب تكساس الوسيط في بورصة نايمكس. إن مصافي النفط الأمريكية تستفاد من هذه الهوامش العالية، حيث إنها مستمرة في تصدير أكثر من مليون برميل في اليوم من زيت الغاز، لكن هذا كان له بعض التداعيات، حيث انخفض المخزون الأمريكي من وقود نواتج التقطير بصورة كبيرة تجاوزت 30 مليون برميل، أي نحو 20 في المائة أقل من الفترة نفسها من العام الماضي، على الرغم من ارتفاع إنتاج المصافي.
انخفاض الاستهلاك في الولايات المتحدة وفر المزيد من الشحنات إلى أوروبا، التي تعاني بصورة مستمرة شح وقود الديزل، وإلى أمريكا اللاتينية، حيث إن نقص طاقات التكرير والنمو الاقتصادي الجيد قد زادا من الحاجة إلى استيراد المنتجات النفطية، خصوصا زيت الغاز. يعاني الساحل الشرقي من الولايات المتحدة بصورة خاصة أيضا نقصا في مخزون زيت الغاز، ذلك أن معظم الطلب على وقود التدفئة يتركز هناك، حيث شهد مخزون المنتجات تراجعا أكثر من 30 في المائة مقارنة بالعام الماضي وبأكثر من 40 في المائة مقارنة بعام 2010، بسبب استمرار إغلاق مصافي النفط على جانبي حوض الأطلسي على مدى الأشهر الـ 12 الماضية، لكن إنقاذ مصفيين في ولاية بنسلفانيا من الإغلاق ساعد على التخفيف من توقعات شح العرض في الأشهر القادمة.
أوروبا تقف في قلب أزمة إمدادات وقود الديزل العالمية، حيث عجزها الدائم يتطلب منها الاستيراد والتنافس على الإمدادات التي قد يصعب الحصول عليها أحيانا نتيجة ارتفاع الطلب على وقود الديزل من منطقة آسيا - المحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية اللذين يسعيان جاهدين لاستقطاب المصافي الأمريكية. لقد ثبت عدم جدوة الجهود التي تبذلها شركات التكرير الأوروبية لتعزيز إمدادات الديزل محليا، ذلك بسبب إغلاق بعض منشآت التكرير غير اقتصادية وتدني هوامش أرباحها نتيجة ارتفاع أسعار الخام المسعرة باليورو.
ما هو أكثر من ذلك هو أن صمود الطلب على وقود الديزل في أوروبا في ظل الركود الاقتصادي الحالي واستمرار المصافي في التركيز على إنتاج البنزين لم يساعدا على تخفيف أعباء الاستيراد. نتيجة لهذه العوامل نما العجز في وقود الديزل في أوروبا بنحو 500 ألف برميل يوميا منذ عام 2008، حيث فقدت الكثير من طاقات التكرير بسبب الاتجاه التراجعي المستمر في الطلب على النفط.
أما منطقة آسيا - المحيط الهادئ فإنها تعاني مشاكلها الخاصة بها، حيث إن هيكل نمو الطلب في الأسواق الناشئة يميل باتجاه زيت الغاز، وكذلك هو حال نمو الطلب في الصين، على الرغم من تباطئه في الوقت الحاضر، في حين أن الأسواق الآسيوية الأخرى ستحتاج إلى وقت طويل لتحديد أسعار المنتجات في فصل الشتاء. إضافة إلى ذلك، شهدت آسيا أخيرا أعطالا في بعض مصافيها ما أثر سلبا في إمدادات المنتجات. في منطقة الشرق الأوسط لا يزال الطلب على وقود الديزل قويا، حيث نما الطلب هناك بنحو 6 في المائة حتى الآن من هذا العام، وكان أيضا قويا في الهند، حيث نما بنحو 8.5 في المائة. على النقيض من ذلك، تباطأ نمو الطلب على وقود الديزل في الصين من 13 في المائة في عام 2011 إلى ناقص 0.3 في المائة حتى الآن من هذا العام. الاضطرابات الأخيرة في مصافي الأقاليم في الصين تعكس حالة من التوقفات غير المخطط لها والتأخر في إعادة التشغيل.
هناك قول اقتصادي مأثور: ''إن علاج ارتفاع الأسعار هو في ارتفاع الأسعار''، هذا المثل ينطبق أيضا على التوقعات بخصوص زيت الغاز، حيث إن الطلب يتأثر بارتفاع تكاليف (أسعار) الوقود وتباطؤ النمو الاقتصادي، في حين أن مصافي التكرير في جميع الأسواق ستستجيب إلى ارتفاع الهوامش وتزيد الإنتاج، مُعدلة بذلك النتائج لمصلحة نواتج التقطير المتوسطة. على سبيل المثال، على ساحل الخليج الأمريكي، إنتاج زيت الغاز حاليا أعلى من إنتاج البنزين بأكثر من 600 ألف برميل في اليوم، هذا يمثل تحولا ملحوظا مقارنة ببضع سنوات مضت. ارتفاع هوامش أرباح المصافي في آسيا سيحافظ على معدل عال للطاقات التشغيلية للمصافي هناك، وذلك لتلبية الطلب المحلي وتصدير وقود الديزل إلى الأسواق الأوروبية المتعطشة. كما أن الكثير من العوامل تعتمد أيضا على حالة الطقس، حيث إن بداية معتدلة لفصل الشتاء قد تقلل الطلب وتهدئ الأسواق.