رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


التوازن في التربية

ابنها الوحيد الذي طال انتظار خروجه إلى الحياة، لذا بعد ولادته لم تكن ترى في هذا الوجود أجمل منه، ولا أميز، ولا أذكى منه، كانت ترى فيه الحياة، وترى الحياة من خلاله. لا تحتمل مفارقته أو ابتعاده عنها، أسبغت عليه كل أنواع الحنان والدلال الذي يفوق ما يمكن أن يتصوره أي فرد، وحظي بالرعاية والحماية الزائدة، كانت تخاف عليه من أي شيء حتى الهواء، كانت تخشى أن يؤذيه. عاش الابن سني حياته الأولى ما قبل المدرسة في هذا المناخ المفعم بالحب، ولا بأس بالحب، لكن لا للدلال الزائد عن الحد والخوف المبالغ فيه عليه.
انتقل الطفل من بيته للمدرسة، وكان يتوقع أن يجد في المدرسة ما يجده في المنزل، أو بالأخص ما يجده من أمه التي لم توفر شيئاً من الجهد والمال والألفاظ إلا وقدمته لطفلها، في المدرسة وجد الطفل نفسه بعيداً عن أمه، ومع أناس غرباء بالنسبة له، لم يجد الرعاية الخاصة به هو وحده دون غيره، وجد أساتذة يعاملونه كما يعاملون غيره، ووجد زملاء فصل يتعاملون معه بندية، لم يجد ذلك الاهتمام والرعاية المبالغ فيهما، اللذين كان يلقاهما من أمه، أو ما يمكن أن نسميه التهور في الرعاية.
ليت الأمر اقتصر على إسباغ أشكال الدلال والرعاية، بل إن أمه بدأت بإشعاره بأنه أفضل من زملائه، وأنه أذكى منهم، وأنه الأجمل والأقوى حتى خلقت في ذهنه صورة مثالية خاطئة عن نفسه، حيث لم يعد يجد نفسه بين زملائه، إذ بدأ يبتعد عنهم، ولا يشارك في النشاطات الجماعية التي تستوجبها العملية التعليمية لأنه يشعر بأنه أفضل منهم ولا يليق به أن يختلط بهم أو يتعامل معهم.
أصبح الذهاب للمدرسة أمراً ثقيلاً على نفسه لا يطيقه، كما أن النشاطات المدرسية والواجبات والمذاكرة هي كذلك، ولهذا الواقع في حياة هذا الطفل أثر كبير في تراجع مستواه الدراسي، إذ لم يشعر بقيمة التعلم في حياته، كما لم يشعر بحاجته إلى أداء الواجبات والمذاكرة الجادة، لأن أمه غرست فيه مفهوماً خاطئاً ألا وهو الذكاء المفرط والتميز عن الزملاء والأقران، وهذا مخالف لواقع الطفل الذي انخدع واغتر بما يسمعه من أمه.
ومع مرور الوقت كان مصير الطفل الفشل في الدراسة وتركه مقاعدها، وهذا مصير متوقع لمثل هذه التربية التي افتقدت التوازن والإدراك الواقعي والحقيقي لإمكانات الطفل. هل الفشل في الدراسة ذنب الطفل، أم ذنب أمه وذنب التربية المنزلية؟ من المؤكد أن الطفل لا ذنب له في ذلك، بل إن وزر هذه النتيجة تتحمله الأم التي لم تحسن تربية ابنها وأساءت إليه عندما خلقت في ذهنه تصوراً غير واقعي عن ذاته، إذ إن الأم لم تكن متوازنة في التعامل مع طفلها حين لم تشعره بأهمية العمل والمذاكرة الجادة، أخطأت الأم حين صورت ابنها أنه الأذكى والأفضل والأميز، طبعاً هذا لا يعني أن الأم يلزمها تقريع ابنها والتقليل من شأنه وإشعاره بالدونية أمام الآخرين، كلا، هذا ليس المقصود، لكن المقصود التعامل الواقعي الذي يستوجب إدراك نقاط الضعف ونقاط القوة لدى الفرد والتعامل معه على هذا الأساس، إذ لا إفراط ولا تفريط، وما فعلته الأم هو أنها خلقت صورة خاطئة لدى الطفل عن ذاته وعن الآخرين، ما أثر في سلوكه مع ذاته وكذلك سلوكه وعلاقاته مع الآخرين، التي أصبحت سيئة، بل يمكن وصفها بالعلاقات الفاشلة مع الزملاء في المدرسة ومع المعلمين الذين وجدوا صعوبة في التعامل معه، حيث لا يقبل توجيهاتهم ولا نصائحهم، وهذا انعكس على أدائه المدرسي وامتد ليشمل الأداء الاجتماعي، ولعل في المثل القائل "لا تكن ليناً فتعصر ولا يابساً فتكسر" أساسا تربويا يمكن الاستفادة منه من قبل الآباء والأمهات وأولياء الأمور.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي