التوازن في التوزيع للموارد
أول درس يتعلمه طالب مبادئ الاقتصاد هو أن الاقتصاد كعلم يهدف إلى إيجاد حل أو مجموعة حلول للمشكلة الاقتصادية المتمثلة في ندرة الموارد الاقتصادية من خلال توظيف الموارد الاقتصادية المحدودة في استخداماتها المثلى بما يحقق أعلى عائد اقتصادي ممكن. بمعنى آخر، مهما توافر للاقتصاد من موارد مادية وبشرية، فإن المشكلة الاقتصادية ستظل موجودة وهي عملية توظيف هذه الموارد بطريقة تكفل استدامتها أولاً، ونموها ثانياً، كي تستمر في تحقيق الرفاه الاقتصادي. الدول التي لديها موارد بشرية كبيرة، والدول التي لديها موارد طبيعية كبيرة، وكذلك أيضاً الدول التي لديها موارد مالية كبيرة، جميعها تواجه مشكلة توظيف هذه الموارد. بالطبع، كل دولة تواجه المشكلة من زاوية مختلفة، ويلعب الجو السياسي العام، وسياسات المنافسة، وجماعات الضغط، دوراً مهما ومؤثراً في تحديد البيئة الاقتصادية العامة، وفي تشكيل السياسة الاقتصادية. بعض جماعات الضغط اليسارية مثلاً تفضل الإنفاق الذي يعود بالفائدة على الجماعات الأقل دخلاً، وهذا بالطبع يسهم في زيادة الإنفاق الحكومي، وتضخيم حجم ودور الدولة في النشاط الاقتصادي، بينما ترى جماعات الضغط على الجانب الآخر أن دور الحكومة يجب ألا يتعدى عملية وضع القوانين وضمان تنفيذها وضمان الأمن والعدالة، في حين تترك عملية توزيع الموارد الاقتصادية إلى آليات وقوى السوق.
هذه التجاذبات السياسية هي التي تسهم في تشكيل السياسة الاقتصادية العامة، وبالتالي تؤثر في سياسات الإنفاق العام، والتشريعات والقوانين المنظمة للنشاط الاقتصادي. وهي بالتالي تؤثر بشكل مباشر في عملية توزيع الدخل بين فئات المجتمع المنخفضة والمتوسطة وعالية الدخل. والصراع بين اليسار واليمين ما هو إلا ترجمة للصراع بين هذه الفئات الثلاث، ففي حين شهدت فترة الستينيات والسبعينيات مداً يسارياً قوياً جداً سواءً في منطقة الشرق الأوسط، أو في أمريكا اللاتينية، فإن فترة الثمانينيات وما بعدها، قد شهدت انحساراً كبيراً لهذا المد اليساري لفشله في تحقيق الرفاه الاقتصادي للفئات التي يدافع عنها. فترة الثمانينيات والتسعينيات الميلادية شهدت ولادة الشركات العابرة للحدود، وبروز مفهوم العولمة بجميع مظاهرها على السطح، والحديث عن القرية الكونية التي ستجلب معها فرصاً لا حدود لها من التقدم والرفاه الاقتصادي الذي يبحث عنه الجميع. المبشرون بهذا المد وعدوا بأنه سيكون المخلص للكثير من المشاكل الاقتصادية، وسيجعل كل دولة تتخصص في إنتاج ما تستطيع إنتاجه بكفاءة أكثر من غيرها، ودخلت الدول في دائرة المفاوضات على تحرير التجارة فيما بينها، وأنشأت منظمة التجارة العالمية كمنتدى لهذا التفاوض، لكن ماذا كانت النتيجة؟
النتيجة حملة مسعورة في عدد من الدول النامية للانفتاح التجاري ولتخصيص قطاعاتها الاقتصادية الحيوية، أملاً في تحقيق الحلم الموعود. وبسبب عدم وجود الأنظمة السياسية التي تكفل حدوث عملية التخصيص بما يعظم عوائد المجتمع، فقط ظهرت طبقة سياسية غنية في كثير من الدول النامية، خصوصاً في الدول التي خرجت حديثاً من رحم المعسكر اليساري، وهي ما يسمى طبقة الأوليقارش Oligarch التي أصبحت تتحكم ليس في القرار السياسي فقط، بل أيضاً في قرارات توزيع الموارد، والتسعير، والتوظيف، ما أدى إلى انتكاسة اقتصادية واجتماعية كبيرة في الدول التي انتهجت هذا المنهج، وتركز للثروة في يد مجموعة متنفذة سياسياً، وهذا هو أكبر خطر يواجه الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فعندما يتركز القرار السياسي والاقتصادي في يد فئة من المجتمع، فإن قرارات الإنفاق العام، والتشريعات والسياسات الاقتصادية بشكل عام، ستكون موجهة لخدمة مصالح هذه الطبقة على حساب الفئات الأخرى. ما حدث في مصر خلال فترة التسعينيات أقرب مثال على هذا التحول غير المتوازن، وما يحصل في سورية أيضاً هو نتيجة لانعدام هذا التوازن، على الرغم من الدور الذي لعبه التكريس الطائفي في توسيع دائرة المشكلة في سورية مقارنة بمصر.
العودة إلى تاريخ بعض الدول المتقدمة، وتاريخ أوروبا، سيعطي أمثلة عن عملية التحول غير المتوازن عندما سيطرت خلال فترات معينة فئة من المتنفذين على القرار الاقتصادي، ما أدى إلى ظهور بذور الفكر الشيوعي، والأفكار الاشتراكية، نتيجة للظلم الذي شهدته الطبقات العاملة في المجتمع على يد أصحاب رأس المال. التفاوت الطبقي سيظل في قلب المعادلة الاقتصادية دائماً ما دام هناك تنافس على الموارد الاقتصادية النادرة. لكن الصراع يبرز حين تتلاقى مصالح أصحاب النفوذ السياسي مع أصحاب النفوذ المادي، وتتضارب هذه المصالح من جهة أخرى مع الفئات الأخرى كمتوسطة ومنخفضة الدخل. التغيير والتنمية وعملية الإصلاح الاقتصادي يجب أن تراعي هذا التوازن، بحيث لا يؤدي ذلك إلى تكريس وترسيخ التفاوت الطبقي بين أفراد المجتمع. أصحاب النفوذ دائماً هم الأقدر على الوصول إلى متخذ القرار، وبالتالي هم الأقدر على تمرير ما يخدم مصالحهم، وعلى جميع الأصعدة، بدءاً بالمشاريع الكبرى، وانتهاء بالخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين، وبالتالي فإن الحد من هذا النفوذ وضمان توزيع عادل للموارد بين الفئات المختلفة للمجتمع، من خلال حصر الاستفادة من هذه الخدمات في فئات معينة، يعد أمرا مهما لتحقيق تنمية اقتصادية متوازنة.