العمل الخيري بين الإيمان والوجاهة الاجتماعية
أحد الراصدين والمتابعين للعمل الخيري في بلادنا يقول: إن الإمكانات المتوافرة هائلة جدا، وإن المخرجات مقارنة بتلك الإمكانات ضعيفة جدا، بسبب ضعف عنصري الفاعلية والكفاءة المؤسسية في معظم المؤسسات الخيرية. ويؤكد هذا الراصد أن غياب الفكر والتفكير العميق القائم على الدراسات الحديثة التي تشخص وتحلل واقع المؤسسة وقدراتها وواقع البيئة وفرصها وتهديداتها أدى بشكل كبير لضعف هذين العنصرين.
وفيما يتعلق بأسباب ضعف الاهتمام أو غياب الفكر والتفكير قبل التنفيذ الجاد دار نقاش حاد بيني وبينه بعد أن استعرضنا أكثر من مؤسسة خيرية عملاقة مخرجاتها لا تقارن، وقدراتها وإمكاناتها والأسماء التي تقف خلفها حتى يخيل للبعض أن الكثير منها مؤسسات خيرية للوجاهة الاجتماعية أكثر من كونها مؤسسات قائمة على إيمان راسخ لدى مؤسسيها وإدارتها بأهميتها التنموية من جهة وإيمان راسخ بما لدى الله من أجر عظيم يناله القائمون على هذه المؤسسات الخيرية، وإيمان راسخ أيضا بأن التهاون والتقصير في إدارة وتشغيل هذه المؤسسات إثم، لكونه سيحرم المستفيدين والمجتمع خيرا كثيرا.
من جهتي أدعي أن ندرة القيادات الإدارية المحترفة في القطاعات كافة انعكست على إدارة المؤسسات الخيرية، في حين يقول صاحبي: إن المعنيين بإدارة المنشآت الخاصة تجاوزوا مشكلة أو معضلة ندرة القيادات والكفاءات الإدارية وغيرها من الموارد البشرية لإيمانهم بضرورة الربحية وإلا أغلقت منشآتهم، بسبب الخسائر والسوق لا ترحم وكل من تكاسل ركلته السوق خارجها. أما المؤسسات الخيرية ورغم إخفاق الكثير منها في النهوض بمهامها بالشكل المنتظر فما زالت موجودة وقياداتها قائمة عليها ولا مساءلة من أحد حتى من أنفسهم أمام خالقهم إن كانوا يريدون بهذه الأعمال تقربا إلى الله - عز وجل - طمعا في رضاه وثوابه.
لا دراسة علمية دقيقة بين أيدينا حول فاعلية وكفاءة المؤسسات الخيرية ومدى نهوضها بمهامها، ومدى ملاءمة البيئة لتحفيزها للنهوض بهذه المهام على أكمل وجه، أيضا نحن لا نعلم مدى ملاءمة عدد المؤسسات الخيرية من حيث الكم والنوع لحاجات المجتمع وقدراته، ونحن نعيش في جدلية لا مرجعية علمية واضحة يمكن أن نحتكم لها، لتشخيص الواقع وتحليله ومعرفة أسباب الضعف في العمل الخيري ومدى هذا الضعف وكيفية معالجته، لكن بكل تأكيد مما يبدو لي أن العمل الخيري في بلادنا قاصر في ظل الإمكانات الهائلة ورغبة المواطنين في التبرع عبر قنوات خيرية آمنة وفاعلة وذات كفاءة عالية، نعم فمعظم المواطنين يريدون الثقة والمصداقية لينفقوا في سبيل الله طمعا في كرمه، فنحن من نؤمن بما قاله الله في محكم تنزيله في سورة آل عمران: ''لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ'' (92)، ونؤمن بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ''ما نقص مال من صدقة...'' بل تزده.
إن أحداث الـ11 من سبتمبر أثرت بشكل بالغ في تمويل المؤسسات الخيرية لإحجام الكثير من المتبرعين خوفا من الوقوع في المحذور، ما جعلهم يتجهون للتبرع المباشر لمن يعرفون، ومن المعلوم أن الأموال المتفرقة لا تحقق الفاعلية والكفاءة المنتظرة، ولقد شاهدت أحد المحسنين يعطي أحد الثقات مبلغا لا بأس به من المال ويقول وزعه على من تعرف من الأسر الفاقدة للمعيل (الأيتام والأرامل)، وبطبيعة الحال هذا التبرع ليس تبرعا تنمويا ويسمن الفقر أكثر من أن يعالجه.
أكاد أتفق مع وجهة النظر القائلة: إن معظم أو النسبة الأعلى من القائمين أو العاملين في المؤسسات الخيرية لا يتمتعون بدرجة إيمان قوية بالعمل الخيري وأهميته وآثاره في الدنيا والآخرة، وقد تطغى عليهم أهمية الوجاهة الاجتماعية وفكرة التصالح مع الذات في هذه الأعمال الخيرية، وسبب ذلك أنني أرى قضايا مجتمعية كبيرة ومؤلمة مثل العزوبية والعنوسة وما أدراك ما هما وما آثارهما، والطلاق وآثاره المدمرة للأسرة والمجتمع، والإعاقة بكل أنواعها ومعاناة المعوقين المحزنة والمبكية، ومشكلات الأرامل والأيتام، فضلا عن العوز والفقر والبطالة، لا تحظى بمؤسسات خيرية قوية وفاعلة تتمتع بموارد مالية مستدامة وكفاءة بشرية مؤمنة متفانية إلا ما ندر، وهذا مؤشر إلى أن القائمين على الأعمال الخيرية لم يفكروا في حلول ابتكارية وبإصرار وبتعاون حثيث مع الجهات الحكومية المعنية للوصول لصيغ تمويلية مستدامة للأعمال الخيرية وللوصول لموارد بشرية متخصصة في مجال الأعمال الخيرية قادرة على النهوض بالمؤسسات الخيرية وتطويرها وتوسيع أنشطتها لتنهض بمهامها بما يتناسب وحجم المشكلات واستعداد المجتمع للبذل والعطاء.
وإذا كانت الأعمال الخيرية في المجالين العلاجي والإغاثي والمجال الدعوي تعاني سوء الإدارة وعدم استدامة الموارد المالية الكافية والمتنامية بنمو الحاجات، فإن الأعمال الخيرية في المجالات التنموية أشد معاناة، خصوصا إذا كان الهدف من الأموال المطلوبة تطوير بحوث ودراسات ومخترعات، حيث يحجم الكثير من المحسنين على اعتبار هذا النوع من الأعمال الخيرية ترفا لا داعي له، ولم يستطع القائمون على الأعمال الخيرية تغيير هذا المفهوم الخاطئ عبر السنوات الطويلة التي مضت.
ختاما.. أتطلع إلى أن يقوم القائمون على المؤسسات الخيرية الكبرى التي تصل أوقافها حسب علمي لمليارات الريالات بدور فاعل في إعادة تشكيل الوعي حيال القيام بالأعمال الخيرية وإدارتها كمهام رئيسة لا تنجز بفضلة الأوقات والجهود، وفي مجال إعادة هيكلة البيئة الخيرية في بلادنا بما يجعلها محفزة للمحسنين والعاملين معا، ليساهم هذا القطاع المساهمة المنشودة في الخطط التنموية.