رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


استثماراتنا في الخارج .. بين الالتزامات الدولية والتنمية الوطنية

تمثل الاستثمارات الخارجية في شكلها البسيط معادلة بين طرفين. يقع الاقتصاد الوطني في الطرف الأول من المعادلة. وتقع الاقتصادات الإقليمية والدولية في الطرف الآخر من المعادلة. لا يمكن لهذه المعادلة أن تكتمل دون تعاون كلا طرفيها. حيث يقدم الاقتصاد الوطني مقومات طلب مستمدة من أهدافه التنموية. وتقدم الاقتصادات الإقليمية والدولية بالمقابل مقومات عرض مستمدة من إمكاناتها واحتياجاتها. يعمل كل طرف على تعديل احتياجاته، وأهدافه، وإمكاناته بما يتوافق واحتياجات، وأهداف، وإمكانات الطرف الآخر. ومتى ما وصلت هذه العملية التوافقية إلى الحد الذي يسمح للمعادلة بالاعتدال، تبدأ العلاقة بين طرفي المعادلة. من أهم التحديات التي تواجه عملية التوافق هذه التعديل في ثوابت الاقتصاد الوطني التي لا يقبل المساس بها مهما كانت النتائج وتحت أي من الظروف. وعندما يشعر الاقتصاد الوطني بأن ثوابته بدأت تُمس من قبل الطرف الآخر من المعادلة فإنه يفترض ألا يتوانى لحظة في إيقاف العملية التوافقية برمتها، تمهيدا لإلغاء المعادلة.
عديدة هي التساؤلات التي تطفو على السطح مع ظهور أي تطور سياسي أو أمني أو اقتصادي جديد إقليمياً كان أو دولياً. تدور هذه التساؤلات حول سلامة الاستثمارات السعودية في الخارج ومدى مواصلتها تحقيق مستهدفات الاقتصاد الوطني. من هذه التساؤلات مدى استدامة الجدوى الاقتصادية والسياسية للاستثمارات السعودية في الخارج، في ظل تجدد التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والدولي؟ وما درجات المخاطرة التي تقبل أن تتحملها هذه الاستثمارات الوطنية؟ وما معايير تحديد خريطة توزيعها الجغرافي على خريطة العالم الاقتصادية؟ وما المؤثرات التي تستطيع تغيير خريطة التوزيع هذه؟ ومن يملك القرار في تنويع هذه الاستثمارات؟ ومدى ارتباط هذا القرار بالتوجه التنموي العام للمملكة على المدى البعيد؟
حاولت دراسة الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال دراسة درجة المخاطرة في الاستثمارات الخارجية ومدى جدوى توزيعها البيني بين صناعات مختلفة لـ 51 دولة اقتصاداتها متباينة بين اقتصادات متقدمة، وشبه متقدمة، وناشئة. صدرت الدراسة الأسبوع الماضي من صندوق النقد الدولي تحت عنوان ''تأثير الثقافة المحلية على درجة مخاطر استثماراتها الخارجية .. دراسة مقارنة بين دول وصناعات مختلفة''. هدفت الدراسة إلى قياس درجة تأثر 50 ألف شركة تعمل في 400 قطاع إنتاجي مختلف في 51 دولة، تمهيداً لتصنيفها إلى دول راسخة في توجهاتها الاستثمارية والتنموية لتحقيق مستهدفاتها بعيدة المدى، وأخرى مرنة في قبول التأثر بالضغوط التي تمارسها عليها اقتصاداتها الإقليمية المجاورة والدولية الصديقة، بما يجبرها على تحقيق مستهدفات قصيرة المدى على حساب مستهدفات بعيدة المدى. شملت عينة الدراسة السعودية، وضمت في ثناياها صناعاتنا الوطنية المختلفة في مجالات النفط، والغاز، والمشتقات النفطية، والاتصالات، والتعدين، والطاقة، وعدد من شركاتنا القيادية العاملة في هذه المجالات.
من الأهمية قبيل النظر في نتائج الدراسة أن ننظر إلى واقع الاستثمارات السعودية في الخارج من منظور محلي، من واقع تقرير وضع الاستثمار الدولي للمملكة، أصدرته قبل أربعة أشهر مؤسسة النقد العربي السعودي. ومنظور آخر دولي من واقع تقرير الاستثمار العالمي أصدره أخيرا مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ''أونكتاد''. والدافع خلف هذه النظرة المشتركة تكوين صورة شمولية عن واقع الاستثمارات السعودية في الخارج ومستقبلها، آخذين في الاعتبار تطورات الأزمة المالية في الاقتصاد العالمي والربيع العربي سياسيا في الاقتصادات الإقليمية المجاورة، وانعكاسات كلا هذين التطورين على مقومات الاقتصاد السعودي من ناحية التدفقات المالية الصادرة والموارد البشرية الواردة. وعلاوة على هذه النظرة المشتركة والتطورات القائمة، فإنه من الأهمية كذلك ألا تغيب رؤية الاقتصاد السعودي الطموحة المستهدف بلوغها في منتصف العقد المقبل ودورها في التخطيط التنموي للمملكة خلال الأعوام المقبلة حتى 2025، بعون الله تعالى وتوفيقه.
أشار تقرير مؤسسة النقد العربي السعودي إلى حدوث تطور في التوجه نحو تعديل معدل أوزان الأوراق المالية المختلفة التي تتشكل منها المحفظة الاستثمارية السيادية لدى المؤسسة خلال الفترة 2007 - 2011 بما يتوافق ومتطلبات العملة السعودية. حيث شهد كل من وزن النقد الأجنبي والودائع في الخارج، وكذلك وضع الاحتياطي لدى صندوق النقد الدولي خلال الربع الأول من 2012؛ نمواً تعدى المعدل السنوي خلال الفترة 2007 - 2011 في الوقت الذي تراجع فيه وزن استثمارات الأوراق المالية في الخارج عن المعدل السنوي خلال الفترة ذاتها. شهدت حقوق السحب الخاصة نمواً منذ مطلع العام الحالي مقارنة بالمعدل السنوي خلال الفترة ذاتها، في إشارة للتوجه نحو دعم القدرة التفاوضية للمملكة لدى صندوق النقد الدولي.
وأشار تقرير ''أونكتاد'' بالمقابل إلى تطورات في أداء الاستثمارات السعودية في الخارج خلال الـ 20 عاما الماضية. حيث بلغت هذه الاستثمارات أفضل حالاتها خلال 1988 - 1990 عندما احتل الاقتصاد السعودي المرتبة الـ 26 من بين 128 دولة شملها مؤشر ''أونكتاد'' للاستثمارات الأجنبية المباشرة. سبق ذلك تسجيل هذه الاستثمارات أداءً سلبيا خلال 1989 - 1992 عندما احتل الاقتصاد السعودي المرتبة الـ 105 من بين 128 دولة. كما واجهت الاستثمارات السعودية في الخارج أصعب تحدياتها خلال 2001 - 2003 عندما احتل الاقتصاد السعودي المرتبة 107 من بين الـ 128 دولة. وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الاستثمارات اتسمت لاحقاً بالنمو والاستدامة منذ 2002 حتى اليوم عندما تقدمت من المرتبة 107 إلى الـ 41 من بين 128 دولة.
تعود بنا هذه النظرة المشتركة من النظرة المحلية والدولية إلى النظر في نتائج الدراسة أعلاه. من أهم النتائج التي تدور حول أداء الاستثمارات السعودية في الخارج تحقيق هذه الاستثمارات درجة متوسطة في مدى وضوح رؤيتها المستقبلية، وضعتها في مصاف استثمارات معظم اقتصادات الشرق الأوسط. كما حققت هذه الاستثمارات درجة متقدمة في معدل الانفرادية في صناعة القرار الاستثماري، ومساوية لما حققته مثيلاتها الصينية والبرازيلية، عاكسة بذلك محدودية الجهات التنفيذية السعودية المختلفة المشاركة في صناعة القرار الاستثماري.
وعلى الرغم من وجود عدد من التحفظات في المنهجية التي اتبعتها الدراسة للوصول إلى نتائجها، إلا أن ذلك لا يمنع من التأكيد على أهمية الإعلان عن رؤية واضحة للاستثمارات السعودية في الخارج، يحدد فيها دورها وحجمها في رفد مستهدفات العملية التنموية بعيدة المدى، آخذين في الاعتبار أن التزامات الاقتصاد السعودي في المدى القصير نحو الاقتصادات الإقليمية والدولية، من الأهمية ألا تؤثر في مستهدفات المملكة التنموية على المدى البعيد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي