ارحموا عزيز قوم ذل!
عندما حاولت لفت النظر إلى قضية إنسانية مُتفشية في مجتمعنا، تتمثل في وجود إجحاف صارخ في حق بعض المطَلقات، لم يُعجب بهذا الطرح إخوان لنا قد لا تكون مرت عليهم حالات مشابهة للمثال الذي ذكرناه في المقال الأول. وكنت أتمنى لو أن الإخوة الذين تكرّموا بإبداء ملاحظاتهم، ولهم مني كل الشكر والامتنان، أن يكونوا أكثر واقعية وأن يدركوا تمام الإدراك أن الهدف من إثارة القضية هو الصالح العام. فمنْ اجتهد وأصاب فله أجران وإن اجتهد ولم يحالفه الحظ فله أجر واحد. أما الخروج عن الموضوع والانتقال إلى هوامش لا تمس إليه بصلة، كوصف الكاتب بأنه إنما ينقل عادات من الغرب أو الشرق أو أنه غير مؤهل للحديث عن القضايا الاجتماعية التي هي خارج تخصصه الفني، فهو أمر يدعو إلى العجب والاستغراب. وهل يسوغ لهم أن نطلب من الكاتب الاجتماعي المبدع الدكتور الحربش أن يحصر كتاباته في أعراض مرض البنكرياس والكبد والطحال والقولون؟ هم نسوا - هداهم الله - أن الذي يعيش في مجتمع ما يصبح جزءاً من ذلك المجتمع. وإذا كنتَ عضواً فاعلاً في المجتمع فلك كل الحق أن تتحدث بما تشاء عن أحوال مجتمعك. الأمر الآخر الذي لاحظته من قراءة التعليقات على المقالين السابقين، هو يقيني بأن معظم الإخوة لم يقرؤوا المقال بتأنٍّ وتمعن، بل بنوا ملاحظاتهم على قراءة سطحية فجاءت ردة أفعالهم بعيدة عن الموضوعية.
أنا لم أتحدث عن عموم واقعنا، كما يعتقد البعض. فهناك حالات كثيرة تجد فيها الزوجة المطلقة مَن يعولها بعد حصول الطلاق. وهناك من الأزواج مَن كان يملك ثروة كبيرة قبل الزواج. وفي جميع الأحوال لم نقل بتقاسم الثروة سواء كانت جديدة أو قديمة بالتساوي بين الزوج والزوجة المطلقة، كما هو حاصل في بعض البلدان الغربية. نحن لسنا من هواة الغرب ولا من محبي عاداتهم ولم نكن في يوم ما من دعاة التغريب. فنحن - ولله الحمد - أمة مسلمة لها تاريخها وعقيدتها وعاداتها، ولكنها لم تصل بعد إلى مرتبة الكمال، ومنْ يقل بغير ذلك فقد جانب الصواب. هناك الكثير من الأمور والممارسات التي نتطلع إلى تغييرها - إن شاء الله - إلى الأفضل. أنا تطرقت إلى حالة واحدة فقط وذكرتها بالتفصيل في المقال الأول وظروفها واضحة وضوح الشمس، ولا تحتمل اللف والدوران. ونحن كلنا نعلم أنه ليس لكل مطلقة، ربما تعدّى عمرها الخمسين عاماً، ولي أمر على قيد الحياة أو لديه المقدرة المالية على إعالتها، أو يكون لها أبناء أغنياء يسكنونها في بيوتهم وينفقون عليها. هذه كلها أمور افتراضية لا تسمن ولا تغني من جوع.. بينما الذي نود الاتفاق عليه هو أن يأتي الإنفاق عليها وبسخاء من زوجها الذي هي أفنت عمرها في كنفه وتحت عصمته وطوع أمره. ويظهر أن البعض قد فهم خطأً أننا ندعو إلى تشريع يمنع الطلاق، وهو أقل ما يُقال عنه إنه سوء فهم. فالطلاق من سنن الله في خلقه، وإنما الذي ألمحنا إليه هو احتمال عدم تسرُّع الزوج باتخاذ قرار الطلاق إذا أدرك أنه سوف يكون مسؤولاً أمام الله، وأمام الناس، بالصرف على مطلقته التي ذكرنا مثالاً لها في أول الحديث.
وقد أسهب الكثيرون من الإخوان المعلقين في الحديث عمّا كفله الإسلام للمرأة بوجه العموم من الحقوق، وهو ما لم ولن نختلف حوله. فموضوعنا محصور في حالة واحدة تحدث في مجتمعنا من وقت لآخر. ولا علاقة لها بما طلبه أحد الإخوان من ضرورة عمل إحصاء عام يثبت وجود الحالات التي ذكرناها. أنا شخصياً أعرف أكثر من حالة واحدة، بعضها كان لي معهم صلة قرابة والبعض الآخر معرفة عادية. ولو لم أجد ما يدعو إلى التطرق إلى الموضوع - رغم حساسيته - لما أقدمت على الكتابة عنه. وثقوا بأنني لم أفاجأ بهذا القدر من الاستنكار من قرّائي الأفاضل. وكنت ولا أزال أتمنى أن تستمر المناقشات بموضوعية تامة بعيدة عن التشنج والاستهزاء. ومَن له رأي مغاير فليتفضل بإبدائه، ولا خير فينا إذا لم نتقبل ذلك منه. وليعلم إخواننا الذين يبطِّنون تعليقاتهم بشيء من الكبرياء والادعاء بأنهم يفهمون في الآيات القرآنية الكريمة ومقاصد الشريعة السمحة أكثر من غيرهم، أن ذلك لن يخدم قبول آرائهم. ومُعلق آخر استغرب أن يكون لولي الأمر دور في حل مثل هذه الحالات الاجتماعية. وربما أنه لم يسمع بشيء اسمه التكافل الاجتماعي، وهو قد يكون جزءاً من الحل لمثل هذه الأمور التي يكون ضحيتها أحد أفراد المجتمع، وهي مؤسسة اجتماعية من الممكن أن تكون تحت رعاية الدولة. والمقصود هنا أن تكون خارج معونة الشؤون الاجتماعية الضئيلة التي تُصرف على العائلات والأسر الفقيرة. والتكافل الاجتماعي ينشأ من تكافل الموسرين الخيِّرين من أفراد المجتمع بقصد مساعدة فئة معينة، قد تكون المطلقات جزءاً منها.
وقبل أن أختم المقال، أود لو أن أحدهم أخذ جزءاً يسيراً من وقته الثمين وسرح قليلاً بخياله الخِصب، وتصور لو أن إحدى بناته أو أخواته تمر حياتها - لا قدر الله - بالظروف التي جاء وصفها في بداية كتابة هذه المقالات، دون زيادة أو نقصان، وذهبت المسكينة عقب الطلاق وحيدة بعد تقدم العمر تبحث عن ملجأ يؤويها ويعيد لها ذكريات عمر الزَّواج الذي دام أكثر من ثلاثين عاماً. وكان الزوج قد جمع ثروة كبيرة خلال مدة الحياة الزوجية. ولم يكن حينئذ ولي أمرها على قيد الحياة. ومحدثكم كان شاهداً على ذلك، وساعدت شخصياً في تخفيف معاناتها. أما كيف، فمن الممكن أن أتحدث عنه خارج نطاق النشر لمَن يود معرفة ذلك. هذا مثال حي لما نتحدث عنه. وأتمنى لو أن أحد الإخوان الذين شرّفونا بإضافة تعليقاتهم أن يخبرنا بما يجول في خاطره الآن لو كان له مع هذه المسكينة صلة قرابة وكان مُطلعاً على وضعها وحالتها. نحن لا نريد جواباً مبهماً ولا تحويلاً إلى مستندات تاريخية أوعادات اجتماعية. افترض أن المرأة مُعلقة في وسط الشارع أو ربما مؤقتاً داخل بيت أحد المعارف، تنتظر منْ ينقذها من الموقف الحرج الذي وجدت نفسها فيه ويرد لها اعتبارها كإنسانة لها حقوق ولها كرامة.