الشعر.. أين يذهب في اتجاهاته المتعددة؟
تتسع مساحات الشعر في العصر الحالي، غير أن فضاءات الإبداع تضيق لدى المتلقي والمبدع في آن واحد ما يخلق حالة تكرار تعاد فيها قصائد الشعر القديمة وعيون الأدب التي عرفها العرب في زاهر عصورهم الأدبية لإشباع النفوس التي تتوق إلى الأدب وتنهل من معينه.
وتبدو قصائد الفصحى بشكلها العمودي القديم الأكثر خسارة في ميدان السباقات الأدبية المليء بصنوف النثر المختلفة إلى جانب الفراغ الذي استطاع الشعر الشعبي أن يملأه في الفترة الماضية.
ويرى مبدعون في مجال الشعر أن الكلمة في الشِّعر تختلف عما هي عليه في النثر اختلافا كبيرا، فهي في الشعر ذات انسيابية وسلاسة وجمال تناغمي تطرب له الآذان وتنسجم معه القلوب، وبما أن هذه الكلمة تحمل عاطفة غارقة في الخيال وخيال غارق في الجمال، فهي تتميز بذلك عن جميع أنواع الأدب العربي، وفي الوقت نفسه لا يرى كثيرون أن الشعر الشعبي يمثل شعرا كلاسيكيا يمثل استمرارا لسياق الشعر المعروف منذ العصور الجاهلية.
لم يتفق المثقفون من الفلاسفة والأدباء وغيرهم على تعريف موحد وجامع يبين ماهية الشِّعر، حتى الشعراء أنفسهم لم يتفقوا على ذلك، ولكنهم اتفقوا على أنه شعور إنساني، ونسج ينسجه من وهبه الله أنامل الجمال في صياغة الحروف واندماج الخيال في معمعة الواقع، وإنتاج إبداعي ميدانه فكر الإنسان الذي ينظر للحياة بمنظور الجمال.
أبو الطيب المتنبي، الأسطورة العربي في الشعر الفصيح خير ما يستشهد بشعره على قوة الكلمة وبعد الخيال وجزيل المعنى قال في إحدى روائعه الشعرية المخلدة:
يــا أعـــدَلَ الــنــّاسِ إلاّ فــي مـُـــعــامَـــلَـــتي
فيــكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ
أُعِــــــــــيــــــــذُهـــــا نَــظَــراتٍ مـــِنــْكَ صادِقَـــــةً
أن تـحسَبَ الشّحمَ فيمن شـحـمــهُ وَرَمُ
وَمَـــا انـــْتـــِفَــــاعُ أخــــي الـــــدّنــــْيـــَا بــِنــَاظِــرِهِ
إذا اســـْتَــوَتْ عِــــنـــْدَهُ الأنـــــْوارُ وَالــــظّــــُلَمُ
أنــَــامُ مــِلْءَ جُـفُـوني عَـــنْ شَـــــوَارِدِهَـــا
وَيــــَسْــــهَـــرُ الـــخَـــلْــقُ جَـــرّاهَــا وَيــخْــتـَصِـمُ
وَجـــــاهِــــلٍ مــــَدّهُ فــــي جَـــهْـــلِهِ ضــَحِــكي
حَـــــــتــــــــى أتــــَـتــْه يـــــَدٌ فــــَرّاســــــَــةٌ وَفـــــــــــــــَمُ
إذا رَأيــــــْتَ نــــــُيــــــُوبَ الـــــلّـــيْـــثِ بـــارِزَةً
فَـــــلا تَــــظُــــنّـــنّ أنّ اللـــــّيــــْثَ يَـــــبْــــتــــــَسِـــمُ
الــــخَيْـــلُ وَالـــلــّــيْلُ وَالــبــَيْداءُ تــَعــرِفُــني
وَالــسّــيفُ وَالــرّمــحُ والــقــرْطــاسُ والــقَــلَــمُ
يشير الدكتور سليمان سالم السناني الأستاذ المساعد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة طيبة، ورئيس تحرير مجلة ''الآطام'' الثقافية الصادرة عن نادي المدينة المنورة الأدبي وهو شاعر يكتب على لوني الشعر الفصيح والشعبي، إلى أن ''الشعر بتعريفه'' التقليدي ''هو الكلام الموزون المقفّى الدال على معنى، أما ماهية الشعر فلها تفسيرات بحسب الرؤى التي حارت في أمرها، ولم تستطع الاتفاق على تعريف جامع مانع للشعر، وإن كان أقربها لجوهر الشعر؛ قول الجاحظ : ''إنّما الشعر صناعة وضربٌ من النسج وجنسٌ من التصوير''. ويبيّن الدكتور السناني أن الفرق الرئيس بين الشعر الفصيح والشعر الشعبي هو في الالتزام بقواعد اللغة العربية من حيث الإعراب والتصريف، والفترة التي ظهر بها الشعر الفصيح هي قبل بعثة النبي ـــ صلى الله عليه وسلّم ـــ بـ 200 عام على أرجح الأقوال، أما الشعر الشعبي فلا يُعرف له تاريخ ظهور، لكنه ارتبط بتفشّي اللحن بين العرب بعد الفتوحات الإسلامية واختلاط العرب بالأعاجم.
ويرى الدكتور سليمان أن الشعر الشعبي لا يهدم كل ما يبنيه الشعر الفصيح بشكل تام، معلل ذلك بقوله ''‘لأن الله ــ عزّ وجل ــ تعهّد بحفظ القرآن من خلال حفظ لغته، فهي باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا خوف عليها من هذا الجانب، هذا من حيث اللغة، أما من حيث المضمون، فالشعر الفصيح يشترك مع الشعر الشعبي في المضامين، وإن جار أحدهما على الآخر فهما مكملان لبعضهما، مع ضرورة بقاء الشعر الفصيح في الصدارة، فهو الأصل وما عداه روافد وفروع''.
وتعجّب الدكتور السناني ممن يعتبر أن الشعراء الشعبيين قد ''خانوا'' لغة أمتهم متسائلاً ''أين خيانة الأمانة؟ كأنهم يتحدثون عن شعراء تركوا لغتهم واتجهوا لكتابة الشعر بالإنجليزية أو الفرنسية كما فعل بعض شعراء الدول العربية التي تأثرت بلغة المستعمر وثقافته ولم تتخلص من ذلك التأثر حتى اليوم. الشعر الشعبي وسيلة من وسائل التعبير، وفن شعريّ مستقلّ، مادته الأساسية من لغتنا العربية الفصحى وإن خالفها في القواعد اللغوية.
وأوضح الدكتور سليمان السناني أن المجتمع لم يتقبل الشعر الفصيح كما تقبل الشعر الشعبي لأسباب عديدة؛ من أبرزها بُعد الشعر الفصيح عند كثير من الشعراء عن ملامسة الهمّ الإنساني، إضافة إلى حاجز اللغة التي يحرص الشعراء على أن تكون أعلى من مستوى فهم القارئ البسيط، وقنوات الشعر الشعبي أرادت جذب الناس له فنفّرتهم منه، واتجهت إلى ملء فراغ البث الكبير بمواد إعلامية تنقصها القدرة على تثقيف المتابع من جهة، وتطوير أدوات الشاعر الشعرية من جهة أخرى، أما الشعر الفصيح فلا توجد ــ للأسف ــ قنوات متخصصة تُعنى به، وإن حرصت بعض القنوات الثقافية على منحه بعض المساحة التي يستحقّها.
وأضاف الدكتور سليمان قائلا: ''الخيل'' و''النار'' في الشعر الفصيح مرتبط ذكرهما بخصلتين حميدتين عند العرب: الشجاعة والكرم؛ لذلك من الصعب تحديد زمن غلب فيه ذكرهما على زمنٍ آخر، وإن كنت أرى أنهما ألصق بحياة الشاعر الجاهلي منها عند الشعراء في بقيّة العصور. أما ''المرأة فنالت في جميع العصور حقها من الذِكْر وستبقى مادة الشعر الأولى وملهمة الشعراء''.
وعن النزاع الفكري بين شعراء الفصحى وشعراء الشعبي قال الدكتور سليمان ''يوجد نزاع إعلامي يظهر تارةً ويخبو تارةً أخرى، وهو من جانب شعراء الفصيح بسبب ما يجدونه من إهمال لحساب الشعراء الشعبيين، والنزاع هنا مُبرر، إذ إن الفصيح هو الأصل، وهو الأولى بالعناية والاهتمام''.
من جانبه، يلفت الشاعر الشعبي أبو نايف صقر الشمري وهو مهتم في شرح وتوضيح بحور الشعر وتفاعيله: إلى أن شعراء الفصحى لا يلتقون بأي حال مع شعراء الشعبي وقال ''نجد في المسابقات الشعرية قسما خاصا بشعراء الشعبي وقسما آخر مستقلا خاصا بشعراء الفصحي، وفي المنتديات الشعرية نجد متصفحا خاصا بشعراء الفصحى ومتصفحا آخر خاصا بشعراء الشعر الشعبي ولو جمعهم منتدى واحد، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن شعراء الفصحي لا يلتقون أبدا مع شعراء الشعبي وبينهما انفصال تام، مع أن الشعر الشعبي جزء من الشعر الفصيح وبينهما تشابه كبير، فنجد أن طريقة وزن القصيدة في الشعر الشعبي والفصيح واحدة، فالشاعر الذي يزن قصيدة في الشعر الشعبي باستطاعته وبكل سهولة أن يزن قصيدة في الشعر الفصيح، وكثير من تفاعيل بحور الشعر الفصيح هي نفس تفاعيل بحور الشعر الشعبي والاختلاف فقط في المسميات''.
وأشار صقر الشمري إلى أن الشعر أصبح سلعة لدى كثير من القنوات التي تخصصت في الشعر وأصبح هدفهم فقط هو جني أكبر قدر من الأموال ولو كان على حساب إظهار شعر ركيك مختل الوزن والمعنى.
واتهم الشاعر أبو نايف كثيرا من مشاهير الشعراء النبطيين بأنهم يعتمدون على ''اللحن'' في كتابة قصائدهم ولا يعتمدون على ''التفاعيل'' الخاصة بكل بحر، وبيّن أن الاعتماد على ''التلحين'' في وزن القصيدة قد يؤدي إلى كسرها، لكن الاعتماد في وزن القصيدة على ''اللحن'' مع ''التفعيلة'' هو الطريقة الصحيحة في وزن القصيدة.
من جهتهم يرى مالكو القنوات الفضائية الخاصة بالشعر الشعبي أن اللوم يقع في ضعف الإعلام الداعم للفصحى على شعراء الفصحى أنفسهم.
وألقى فرحان المطرفي مدير قناة صدى الفضائية المتخصصة في الشعر اللوم على عاتق شعراء الفصحى والجهات التي تنظم الأمسيات والاحتفالات الشعرية وقال ''نحن في قناتنا الشعرية نرحب بالشعر الفصيح والشعر الشعبي على حد سواء، لكن الذين يتفاعلون ويحرصون على التواجد والظهور في الساحة الإعلامية هم الشعراء الشعبيون، أما شعراء الفصحى فلا أجدهم يحرصون على ذلك، وبما أن الشعر الفصيح هو المصدر الذي انبثق منه الشعر الشعبي فهو الأجدر بالاهتمام والظهور، ولذلك يجب على الجهات التي تنظم أمسيات واحتفالات الشعر الشعبي، أن تقحم الشعر الفصيح مع الشعر الشعبي في إقامة أمسياتها، حيث إن شعراء الفصحى متوافرون وإن كانوا أقل عددا من شعراء الشعبي، فلذلك يجب أن تستقطبهم عند إقامة أمسياتها، وتعرف جمهور الشعبي بالشعر الفصيح وأن فيه من جوانب الإبداع وجمال الكلمة الشيء الكثير''.